يوسف مكي
حين أطيح بالشاه، وأعلن قيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ساد شعور عام وسط عدد كبير من المثقفين العرب بأن المنطقة أمام تجربة طهرانية جديدة، شبيهة بالتجربة الإنجليزية التي نتجت عن تحالف الأشراف والبارونات وأصحاب الأملاك والتجار الذين كانوا في المقدمة من الحركة البروتستانتية التي قادت التغيير. شبه البعض الإمام الخميني الراحل، بأوليفر كرومويل، القائد البروتستانتي الذي عزز روح الوثبة والتمرد في المجتمع البريطاني. وشُبه شاه إيران، بالملك شارل الأول الذي حوكم بتهمة الخيانة العظمى، وأعدم عام 1649.
عم تصور أننا أمام نموذج إسلامي "شعبوي" فريد من حيث التزامه بالنقاء والطهارة، وأيضا من حيث نصرته للمستضعفين. وجاءت الأحداث متلاحقة لتدحض مزاعم الذين أملوا وتفاءلوا كثيرا في التغيرات السياسية الدراماتيكية التي صاحبت سقوط الشاه. ورغم كل ما حدث، في إيران منذ تسلم الملالي الحكم، من إخفاقات وفشل متتابع، ومشاكل وحروب، فإن كثيرين بقوا متمسكين بوجهة نظر إيجابية حول هذا النظام.
لكن الأزمة الأخيرة كسرت الجوزة، ونضح الإناء بما فيه. تكشف أن نواميس الكون التي حكمت معظم التحولات الاجتماعية والسياسية في التاريخ، هي ذاتها التي حكمت المشهد الإيراني، منذ نهاية السبعينيات من القرن المنصرم. وكما كانت الصراعات والتناحر بين الحلفاء الذين يقودون عمليات التغيير هي من أبجديات كل التحولات الإنسانية الكبرى، فإنها هنا، في المشهد الذي بدأ في التداعي خلال الثلاثة أشهر المنصرمة، بدت عارية وفاضحة بصورة كاريكاتورية، ربما لم تشهد مثلها أكثر النظم قهرا واستبدادا.
لن نذهب بعيدا، في تفصيل الكيفية التي شهد فيها المجتمع الإيراني بأم عينيه انهيار منظومة قيمه. ولن يكون علينا الاستغراق طويلا، في البحث عما يعزز وجهة النظر هذه. فشريط الأحداث، كما تبرزه الفضائيات ونشرات الأخبار، الإيرانية الصديقة، غير المعادية لنظام الجمهورية الإسلامية، يفصح عن ذلك بشكل جلي، لا لبس فيه.
وليس علينا، في هذا السياق، أن نختار أحد الخنادق، أو جانبا من حلقات الصراع، لنطل منه على حقيقة ما يجري. فالأمر لشدة وضوحه، أصبحت كل طرقه "تؤدي إلى روما". ولعلنا في هذا السياق، نقتصر على أربعة محاور، تختزل القول وتغني عن رحلة البحث. فساد مالي وإداري، وتهم بممارسة التعذيب والإرهاب، حد ممارسة الاغتصاب الجنسي بحق الخصوم، وصراع محتدم على السلطة، وتهم بتزوير نتائج الانتخابات الأخيرة.
فيما يتعلق بالفساد المالي والإداري، هناك تهم وتهم متبادلة بين مختلف الفرقاء باقتراف جرائم فساد مالي وإداري كبرى. ومن يرغب في المتابعة والتأكد من ذلك، فما عليه سوى مراجعة المباريات الحوارية التي ضمت المتنافسين على كرسي الرئاسة: نجاد وموسوي وكروبي ورضائي. ولعل الأبرز بين تهم الفساد المالي الاتهام الذي وجهه الرئيس نجاد لهاشمي رفسنجاني بالثراء غير المشروع على حساب الدولة، أثناء حملته الانتخابية، وعدم اعتراض الولي الفقيه آية الله خامنئي الحازم، على ذلك.
أما التنكيل بالخصوم وإخضاعهم لمختلف أنواع التعذيب داخل المعتقلات، ومواجهة المظاهرات بمختلف أدوات البطش، فكان له حصة الأسد، من الانتشار الإعلامي. وقد دفعت الحملة الإعلامية الواسعة ضد ممارسات النظام الوحشية، بعض رموزه، للإعلان عن تشكيل لجان تحقيق للتأكد من صدقية الاتهامات الموجهة لعناصر الأمن، كان آخرها ما نقلته وسائل إعلام إيرانية عن رئيس مجلس الشورى الإسلامي علي لاريجاني، من تشكيل لجنة التحقيق في مزاعم تعرض "معتقلي الأحداث الأخيرة لاعتداءات جنسية، وأن تلك اللجنة لم ترصد "خلال التحقيقات الدقيقة والشاملة التي أجرتها" وقوع أي حالات اغتصاب أو اعتداء"، وفقا لوكالة "مهر" للأنباء الإيرانية شبه الرسمية.
وفي سياق الصراع على السلطة أيضا، قال القيادي بالحرس الثوري يد الله جواني "إذا أصبح موسوي وكروبي وخاتمي المشتبهان الرئيسيان وراء الثورة الناعمة في إيران، فإننا نتوقع أن يطاردهما القضاء ويلقي القبض عليهما ويقدمهما للمحاكمة ويعاقبهما". وأكد أن السلطات الأمنية كشفت "مؤامرة لقلب نظام الحكم الإسلامي"، متسائلا عن المخططين والمنفذين لهذه المؤامرة وعن دور القيادات الإصلاحية فيها.
ومن جانب آخر، أكدت صحف إيرانية أن الصراع على السلطة يدور الآن بين قطبين هما السيد هاشمي رفسنجاني، رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام ورئيس مجلس الخبراء، وبين السيد علي خامنئي، الولي الفقيه والمرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية في إيران.
ومن تداعيات هذه الأزمة أن بعض الأصوات بالحوزات العلمية وبرلمانيين أصبحت تطالب بعزل آية الله علي خامنئي، ومراجعة صلاحيات منصبه، لكن عملية عزله ليست بالأمر السهل، على الرغم من تأكيد المرجع الديني البارز في قم آية الله أسد الله بيات زنجاني على أهمية قيام مجلس الخبراء بوظائفه في تقويم أو عزل "الولي الفقيه" آية الله علي خامنئي، مشيرا إلى أن القائد الأعلى للجمهورية الإسلامية قد فقد شروط القيادة، وبخاصة شرط العدالة.
تهم التزوير، كانت محور الصراع، والشرارة التي أدت إلى تفجره، والموضوع فيها يطول، ويطول، لكن الخلاصة المؤكدة أنه لم يعد هناك مكان للحديث عن طهرانية الثورة أو نقائها، فقد بدأ قادتها في طحن بعضهم، ولسوف تستمر لعبة القط والفأر قائمة إلى حين. وستكون لنا محطات لاحقة، لمتابعة مستقبل الصراع وتأثيراته على الداخل، وعلى المنطقة بأسرها بإذن الله تعالى.