نصر شمالي
ما كاد الرئيس باراك أوباما ينهي زيارته لأفريقيا حتى توجّه إليها الإسرائيليون، وبينما قصدها أوباما لتسويق مشاريع الأمن والاستقرار والرفاه الاقتصادي، حسبما تضمّنت خطاباته في غانا، فإنّ الإسرائيليين قصدوها لتسويق مختلف أنواع الأسلحة الحربية الفتاكة، في نيجيريا وأثيوبيا ويوغندا وكينيا، وإنّ أولّ ما ينبغي علينا عدم إغفاله هو وحدة الاتجاهين والوجهين والأسلوبين المتناقضين، الأميركي والإسرائيلي!
إنّ من يؤكّد بحزم على وحدة السياستين الأميركية والإسرائيلية هو الرئيس باراك أوباما بالذات، ليس في خطاباته أثناء حملة الانتخابات الرئاسية وبعد وصوله إلى البيت الأبيض، وما جاء فيها من تأكيدات على خصوصية العلاقة التاريخية بالكيان الإسرائيلي، بل في خطابه مؤخّراً أثناء اجتماعه مع زعماء اليهود الأميركيين، حيث استخدم في وصف هذه العلاقة تعبيرات لم يسبقه إليها أحد من أسلافه، حين قال أنّ الجدل الدائر بين الأميركيين والإسرائيليين "حول المصير الرهيب المقرّر للفلسطينيين" هو جدل يدور داخل العائلة الواحدة! والمفارقة أنّ من يقول هذا الكلام يعاني هو شخصياً من عدم اعتراف الكثيرين في الولايات المتحدة بانتمائه بالولادة لوطنه الذي هو رئيسه المنتخب! لقد استدعى هذا الأمر تدخّل الكونغرس، واتخاذه قراراً يفترض أن يحسم الجدل حول انتماء الرئيس للوطن بالولادة، لكنّ عشرات الأعضاء امتنعوا عن التصويت لصالحه! وهكذا فإنّ الرئيس الذي تحدّث عن الجدل الأسروي داخل العائلة الواحدة الأميركية الإسرائيلية، بصفته ربّ هذه العائلة، يفتقر هو نفسه إلى الإقرار بالإجماع أنّه عضو أصيل فيها!
يحتلّ الكيان الإسرائيلي مكانة مميّزة في قلوب الأميركيين الأنكلوسكسون البيوريتان، فبفضل روايات العهد القديم التي يتعصّبون لها أكثر من اليهود أعطوا أنفسهم الحقّ في احتقار الأمم الأخرى واستباحة أوطانها. وبفضل الإسرائيليين، الذين ينبغي أن يعودوا إلى أرض الميعاد كشرط لظهور المسيح وبداية الألف عام السعيدة، وضعوا يدهم على فلسطين، وبرّروا إفناء أهلها، وهيمنوا على البلاد العربية. إنّهم يتحدّثون كسياسيين عن العلاقة التاريخية الخاصة التي تجمعهم بالإسرائيليين فيصفونها مراوغة بأنّها "الثقافة المشتركة"، بينما هم يقصدون "اللاهوت المشترك". وأهمية اللاهوت المشترك تقتصر فقط على أنّه يعطي معتنقيه الحقّ بقتل الآخرين والاستيلاء على ممتلكاتهم، باعتبارهم شعب الله المختار. واليهود القدامى يشكّلون أداة لا غنى عنها في أيدي المتهوّدين الجدد، الذين يصرّون على الاحتفاظ بمسيحيتهم اللوثرية في الوقت نفسه، حيث بهما كلتيهما تتحقّق الهيمنة على العالم في معظمه. وبما أنّ الحال كذلك فإنّ الرئيس الأميركي الحالي يستطيع التحدّث إلى الناس كمسيحي متهوّد بخلفية إسلامية أفريقية، فأيّ توفيق هذا التوفيق، وأية حلقة مغلقة محكمة هذه الحلقة! وبالفعل كان هذا حاله في زياراته لكلّ من تركيا ومصر وغانا: حال المتنصّر من أصول إسلامية، المتهوّد من أصول مسيحية! وفي حال كهذا، يديره رجال المال الحرام والأعمال الشنيعة، تتحقق أقصى الغايات الدنيوية مهما بدت غير مشروعة ودنيئة ووحشية!
بسلفيتهم وأصوليتهم المفرطة الرهيبة، التي لا يجوز انتقادها من قبل الآخرين تحت طائلة العقوبات، يلعب الإسرائيليون دوراً لا غنى للأميركيين عنه في مغامراتهم الدولية. إنّ الإسرائيليين هم القاعدة الحربية المتقدّمة غير الخاضعة لمعايير وقوانين الغير "الغوييم" التي لا يعترف بها عهدهم القديم. وفي الانطلاقة الأخيرة نحو أفريقيا رأينا أوباما يقتصر في أحاديثه على القضايا السلمية، وهو ما تتطلبه المصلحة الأميركية في ظلّ الأزمة الراهنة التي ترهق الولايات المتحدة، ويترك قضايا الحرب التي هي الأساس للإسرائيليين..وبالطبع فإنّ الحال لم يكن دائماً وغالباً هكذا حتى الأمس القريب، ففي مطلع الثمانينات من القرن الماضي كان الإسرائيليون يعتقدون أنّ الوقت قد حان لاجتياز الصحراء بدباباتهم نحو الكويت ووضع اليدّ عليها ليصبحوا دولة نفطية من الطراز الأول! كانوا يقولون: "ما الذي يمنعنا؟ ماذا يفصلنا عن الكويت غير الصحراء؟ ثمّ إنّ الضرورات الملحّة "للعائلة الواحدة الأميركية الإسرائيلية حسب أوباما" تقتضي ذلك بعد ما حدث في إيران"! وبالفعل توجّه عزرا وايزمان حينئذ إلى الأميركيين مقترحاً أن يسمحوا له باحتلال الكويت، فزجروه وقالوا له أنّ هذا ليس من شأنه ولا من اختصاصاته "السناتور جاكسون رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ على الأغلب" وقد صمت وايزمان، ولم ينبس بحرف كما هو متوقع من مرتزق صغير مأجور! لقد كانت واشنطن تعدّ لحروب الخليج حينئذ على طريقتها ولا ترى للإسرائيليين دوراً فيها، وهي أكّدت ذلك عندما منعتهم من الإقدام على أيّ عمل حربي ضدّ العراق الذي قصفهم بصواريخه البعيدة المدى، لكنّها هي من أمرهم بقصف وتدمير المفاعل النووي العراقي! لقد كانت واشنطن تعدّ للعراق مصيراً لا دور حربي ميداني وعلني للإسرائيليين فيه!
الكيان الإسرائيلي ضروري أميركياً لممارسة سياسة الوجهين والأسلوبين المتناقضين. إنّ الرئيس أوباما يتحدّث بحرارة عن حقوق الإنسان المنتهكة في هذا البلد أو ذاك من بلدان العالم، حتى لو كان الانتهاك يقتصر على مجرّد قمع تظاهرة، لكنّه لا ينبس ببنت شفة ضدّ الإسرائيليين القتلة، وبصدد عشرة ملايين فلسطيني تدمّرهم على مدار الساعة آلات القتل والحرق والهدم والتشريد الإسرائيلية! لماذا؟ لأنّ العهد القديم يأمرهم باسترداد أرض الميعاد بعد تطهيرها! أو لأنّ هتلر اضطهدهم وسعى إلى إبادتهم، فصار لهم الحقّ في وطن خاص بهم، لكنّ الفلسطينيين الإرهابيين المتوحشين يمنعونهم من تحقيق أمنيتهم الطيبة بتمسّكهم ببيوتهم وحقوقهم ووجودهم! من يستطيع في هذا العالم كلّه أن يفعل أو يقول ما يفعله الإسرائيليون وما يقولونه؟ لا أحد على الإطلاق غيرهم! ومن الأدلّة أنّ الذئبة غولدا مائير صرّحت ذات مرّة أنّها "لن تغفر للفلسطينيين إرغامهم الإسرائيليين على قتلهم"!.