;

نقد العقل العربي :تكوين العقل العربي ..الحلقة «9» 1856

2010-07-27 06:57:43

صفحة من
كتاب


ماذا بقي ثابتاً في الثقافة العربية
منذ "الجاهلية" إلى اليوم؟ قد يبدو هذا السؤال وجيهاً وبريئاً، غير أنه في الحقيقة
سؤال "ماكر" ، مضلل ، خصوصاً وقد ينقلب هو نفسه إلى جواب إذا ما قرئ بصيغة
الاستفهام الإنكاري، على أن ما يجعل منه سؤالاً "ماكراً" من وجهة النظر التي نتحرك
فيها هو أنه يخفي ويكتم سؤالاً آخر معاكساً، أكثر صراحة وأعمق تعبيراً، وبالتالي
أقدر على زعزعة التصور
السائد، هذا
السؤال "المقموع"هو: ماذا تغير في الثقافة العربية منذ "الجاهلية" إلى اليوم؟ ونحن
لا نشك في أن قارئنا العربي نعني الذي يحمل عقلاً تكون في الثقافة العربية ومن
خلالها وحدها قد اهتز وانفعل مع هذا السؤال الثاني بصورة لم تحدث له مع السؤال
الأول.
إن السؤال الأول سؤال مسالم، بل "منوم" ، والسؤال الثاني سؤال مستفز تمتد
آثاره، بعيداً، في "أحشائنا" الفكرية، ولذلك فهو أكثر التصاقاً بموضوعه، أكثر
مساءلة له.
ماذا تغير في الثقافة العربية منذ "الجاهلية" إلى اليوم؟ سؤال يمكن
قراءته هو الآخر بصيغة الاستفهام الإنكاري وسيكون له من المشروعية أكثر مما للسؤال
الأول؟ آية ذلك أننا نشعر جميعاً بأن امرئ القيس وعمرو بن كلثوم وعنترة ولبيد
والنابغة وزهير بن أبي سلمى. .
وابن عباس وعلي بن أبي طالب ومالك وسيبويه
والشافعي وابن حنبل. .
والجاحظ والمبرد والأصمعي. .
والأشعري والغزالي والجنيد
وابن تيمية. .
ومن قبله الطبري والمسعودي وابن الأثير. .
والفارابي وابن سيناء
وابن رشد وابن خلدون. .
ومن بعد هؤلاء جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا
والعقاد والقائمة طويلة. .
نشعر بهؤلاء جميعاً يعيشون معنا هنا، أو يقفون هناك
أمامنا على خشبة مسرح واحد، مسرح الثقافة العربية الذي لم يسدل الستار فيه بعد، ولو
مرة واحدة.
ولا يمكن أن يعترض على هذا "الادعاء" إلا من يشعر شعوراً صادقاً
وجازماً، عندما يقرأ أحد هؤلاء ، أنه لا يفهمه، لا يتجاوب معه، لا يستمع إليه، لا
يستيغ خطابه ومنطقه ، أو على الأقل يشعر أنه من عالم غير عالمه.
وكيف يمكن ذلك
ونحن جميعاً أبناء الثقافة العربية نتعلم القراءة، والفهم والاستماع والخطاب ،
والمنطق منذ طفولتنا، وخلال جميع مراحل دراستنا من "أبطال" هذه الثقافة الذين ذكرنا
بعضهم. .
وإذن فمن من المثقفين "العرب" من يستطيع الإدعاء بأنه من عالم غير عالم
هؤلاء، أو أنه لم تعد له صلة مع أبطال خشبة المسرح الثقافي
العربي. .
"الخالد"؟.
هناك، إذن ، أشياء كثيرة لم تتغير في الثقافة العربية
منذ "الجاهلية" إلى اليوم تشكل في مجموعها ثوابت هذه الثقافة وتؤسس بالتالي بنية
العقل الذي ينتمي إليها: العقل العربي.
ونحن هنا لا نريد أن نسابق خطى بحثنا
بطرحنا لهذه المسألة التي ستكون موضوع تحليل في الفصول المقبلة، ولكننا نأمل من
خلال هذا الطرح "الاستفزازي" الذي صغنا به هذه القضية أن نجعل القارئ يدرك معنا بأن
زمن الثقافة، ليس هو بالضرورة زمن الدول والحوادث السياسية والاجتماعية وأن "الزمن
الثقافي" لا يخضع لمقاييس الوقت والتوقيت الطبيعي والسياسي الاجتماعي، لأن له
مقاييسه الخاصة.
ذلك لأنه لما كانت الثقافة هي فعلاً ما يبقى بعد أن يتم
نسيان كل شيء، فإن ما يبقى من الثقافة وما يميزها هو "زمنها".
وإذا أخذنا بعين
الاعتبار الترابط الذي أبرزناه قبل قليل بين ثوابت ثقافة معينة وبنية العقل المنتمي
إليها أصبح لزاماً علينا أن نقرر أن زمن بنية العقل المنتمي إلى ثقافة ما هو زمن
هذه الثقافة نفسها، وبالتالي فإن زمن العقل العربي هو نفس زمن الثقافة العربية التي
قلنا أن أبطالها التاريخيين مازالوا يتحركون أمامنا على خشبة مسرحها الخالد يشدوننا
إليهم شداً.
لنوضح هذه الدعوى، ولنسلط الأضواء على هذا المفهوم الجديد، مفهوم
"الزمن الثقافي" الذي أدرجناه هنا ضمن المفاهيم الإجرائية التي خصصنا لها هذا القسم
من الكتاب والتي نأمل أن تمكننا من استكشاف أفضل لموضوع دراستنا.
عندما ربطنا
بين بنية العقل المنتمي إلى ثقافة ما وبين ما يبقى من هذه الثقافة لدى الأفراد
المنتمين إليها بعد أن ينسوا ما تلقوه فيها من آراء ونظريات ومذاهب، بمختلف أنواع
التلقي، فإن ذلك يعني أننا ننظر إلى العلاقة بين الثقافة والعقل المنتمي إليها على
أنها علاقة لا شعورية، انطلاقاً من أن ما يتم نسيانه لا ينعدم بل يبقى حياً في
اللاشعور كما يؤكد ذلك فرويد، إن هذا يعني أن بنية العقل ، الذي ينتمي إلى ثقافة
ما، تتشكل لا شعورياً داخل هذه الثقافة ومن خلالها وتعمل بدورها، وبكيفية لا شعورية
كذلك، على إعادة إنتاج هذه الثقافة نفسها، فلنقل، إذن ، أن العقل كجهاز معرفي "فاعل
وسائد" يتشكل وينتج في آن واحد، وبكيفية لا شعورية.
وإذا كان من الجائز، بل من
المفيد، استعمال مفهوم "اللاشعور المعرفي" عند دراسة بنية عقل الفرد الواحد من
البشر، كما فعل عالم النفس الكبير جان بياجي، فلعله من الجائز كذلك استعمال نفس
المفهوم بالنسبة للجماعات والشعوب وبكيفية أدق: بالنسبة للثقافات.
وعندئذ سيكون
من المفيد، بالنسبة لموضوعنا، الحديث عن لا شعور معرفي خاص بالثقافة العربية، بل
بالمثقف العربي.
ولكن ما المقصود باللاشعور المعرفي أولاً؟ استعمل بياجي مفهوم
اللاشعور المعرفي Linconscient cognitive في دراسته لتكوين بنية العقل، عقل الواحد
من البشر، مستلهماً المعنى الذي أعطاه فرويد للاشعور "الانفعالي، السلوكي" الذي هو
عبارة عن طاقة نفسية قوامها الرغبات والمكبوتات وموجهة نحو موضوع ما.
وهكذا فكما
أن الشخص الذي يحب عشيقته يعرف نتيجة سلوكه "العاطفي أي النقطة التي ينتهي عندها
وهي هنا عشيقته موضوع حبه"، فكذلك الشخص العارف يعرف نتيجة سلوكه "المعرفي" أي
الموضوع الذي يتعلق به الفعل المعرفي لديه.
ومع ذلك فلا الشخص العاشق ولا الشخص
العارف يعيان الآليات التي تتحكم في سلوكهما.
فالذي يحب لا يعرف ولا يعي الكيفية
التي بها يحب ولا أسباب حبه ولا لماذا كان بهذه الشدة أو تلك. .
إلخ، وبالمثل
فالشخص العارف لا يعرف هو الآخر ولا يعي الكيفية التي بها يعرف ولا الآليات التي
تتحكم في عملية المعرفة لديه "على الأقل في مرحلة معينة من نموه الثقافي".
ومن
هنا يرى بياجي إمكانية ومشروعية استعمال مفهوم اللاشعور المعرفي للدلالة على مجموع
العمليات والنشاطات الذهنية والخفية التي تتحكم في عملية المعرفة لدى
الفرد.
وهكذا فنحن مثلاً لا نستطيع التفكير بدون استعمال لا شعوري لمفاهيم
أساسية وضرورية لعملية التفكير مثل مفهوم "أكبر" و"أصغر" و"أسبق" و"يساوي" و"قبل"
و"بعد" و"تحت" و"فوق" و"سبب". . إلخ، إننا لا نفكر في معنى كلمة "أكبر" عندما نحكم
بأن هذا الشيء أكبر من ذاك. .
مثل هذه المفاهيم تشكل بالنسبة للفرد البشري ما عبر
عنه بياجي باللاشعور المعرفي، فهي قوامه ومحتواه.
لنستعر إذن هذا المفهوم من
بياجي ولننقله من ميدان السيكولوجيا التكوينية، الذي تحرك فيه بياجي، إلى ميدان
ايبيستيمولوجيا الثقافة الذي نتحرك فيه، ولنقل أن اللاشعور المعرفي العربي هو جملة
المفاهيم والتصورات والأنشطة الذهنية التي تحدد نظرة الإنسان العربي أي الفرد
البشري المنتمي للثقافة العربية إلى الكون والإنسان والمجتمع
والتاريخ. . إلخ.
وإذن فعندما نتحدث عن بنية العقل العربي فإننا نقصد أساساً هذه
المفاهيم والأنشطة الفكرية التي تزود بها الثقافة العربية المنتمين إليها والتي
تشكل لديهم اللاشعور المعرفي الذي يوجه، بكيفية لا شعورية، رؤاهم الفكرية
والأخلاقية ونظرتهم إلى أنفسهم وغيرهم.
لماذا إقحام مفهوم اللاشعور المعرفي ونحن
بصدد الحديث عن الزمن الثقافي؟؟ لاشك أن مفهوم اللاشعور المعرفي، كما نستعمله هنا،
مفهوم إجرائي يجنبنا السقوط في التصورات اللاعلمية التي تقود إليها بعض المفاهيم
الجامدة مثل مفهوم "العقلية" الذي يقوم على القول، صراحة أو ضمناً ، بوجود "ذهنية
طبيعية" "مزاجية" فوق الزمن والتاريخ خاصة بكل شعب أو "عرق".
إن مفهوم اللاشعور
المعرفي مفهوم إجرائي خصب، لأنه يساعدنا على إرجاع عملية المعرفة إلى جهاز من
المفاهيم والآليات غير المشعور بها فعلاً ولكن القابلة للرصد والمراقبة والتحليل
بدل إرجاعها أي المعرفة على "ذهنيات" أو "عقليات" أو غيرها من المفاهيم القاحلة
المضللة.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن استعمال هذا المفهوم في المجال الذي
نتحرك فيه يسمح لنا بعقد مقارنات خصبة موحية.
وهكذا نستطيع أن نربط الزمن
الثقافي بزمن اللاشعور، ومعلوم أن اللاشعور لا تاريخ له لأنه بطبيعته لا يعترف
بالزمن "الطبيعي"، ولنقل أن له زمنه الخاص الذي يختلف تماماً عن الزمن الشعوري، زمن
اليقظة والوعي.
إن زمن اللاشعور هو أشبه ما يكون بزمن الحلم، فهؤلاء يعترف
بالمسافات الزمانية والمكانية ولا بقانون السابق واللاحق، قانون السببية، ومثل ذلك
الزمن الثقافي ، وأيضاً زمن بنية العقل المنتمي إلى ثقافة ما، فهؤلاء يلحقه التغير
بنفس الوتائر التي يتغير بها الزمن الاجتماعي والعاطفي، دع عنك الزمن الطبيعي الذي
تعده حركة الفلك كما يقول الأقدمون.
الزمن الثقافي إذن مثله مثل زمن اللاشعور،
زمن متداخل متموج يمتد على شكل لولبي الشيء الذي يجعل مراحل ثقافية مختلفة تتعايش
في نفس الفكر، وبالتالي في نفس البنية العقلية، كما تتعايش في غياهب اللاشعور
النفسي الرغبات المكبوتة المختلفة الراجعة إلى أزمنة نفسية وعقلية وبيولوجية
مختلفة، رغبات الطفولة والمراهقة والشباب والرجولة، بالإضافة إلى الطاقات الغريزية
البيولوجية المؤسسة لنشاط اللاشعور

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد