;

نقد العقل العربي :تكوين العقل العربي ..الحلقة «10» 1894

2010-07-28 06:26:06

صفحة من
كتاب


وهكذا
فإذا كنا نعتبر، مثلاً، أن تصورات أو معتقدات أو مفاهيم معينة تنتمي إلى مرحلة
سابقة من مراحل التطور الفكري والثقافي فإن هذا لا يعني أن تلك التصورات والمعتقدات
والمفاهيم قد وقفت عند حدود تلك المرحلة من التطور، بل بالعكس، يكمن - ولربما كان
هذا هو ما يحصل في الغالب- أن تعيش تلك التصورات والمعتقدات والمفاهيم في مرحلة
تالية من التطور مع تصورات ومعتقدات ومفاهيم جديدة تماماً، تشكل "الهوية" الثقافية
(العملية أو الفلسفية أو الأدبية) للمرحلة الجديدة تلك.

وقد تتسع الشقة بين المفاهيم القديمة والمفاهيم الجديدة إلى درجة
التنافر والتناقض، ومع ذلك
فقد يحدث - ولربما كان هذا هو الغالب - أن
تظل جميعاً حاضرة، ليس داخل جملة الكفر الذي يعبر عن الثقافة المعنية وحسب، بل
أيضاً داخل فكر الفرد الواحد المنتمي إلى تلك الثقافة، فيعيش القديم والجديد داخل
وعيه، أما في حالة صراع واما في حالة "تعايش" توفيقي أو تناحري، الشيء الذي تنعكس
آثاره على السلوك المعرفي - الفكري لهذا الشخص فيكون "سوياً" أو "متوتراً"،
"متوازناً" أو "منفصماً" ولكنه في جميع الأحوال يعيش زمناً ثقافياً واحداً، مادام
الجديد لم يحقق قطعية نهائية مع القديم، أي ما دام "النظام المعرفي" هو هو، أي ما
دام الجديد لم يحقق قطعية نهائية مع القديم، أي ما دام "النظام المعرفي" هو هو، أي
ما دام في الإمكان دخول "الجديد" في حوار ما مع "القديم"، الشيء الذي يعني ان حصيلة
التطور لم تبلغ بعد نقطة اللارجوع، النقطة التي لا يعود من الممكن معها الانتقال من
الجديد إلى القديم.
في الثقافة، إذن، ليس الزمن "مدة تعدها الحركة" حسب، بل هو
كذلك مدة يعدها السكون، ان صح التعبير، وإذا استعرنا مصطلح إبراهيم بن سيار النظام،
المتكلم المعتزلي المشهور، أمكن القول ان الحركة في الزمن الثقافي حركتان :"حركة
اعتماد" (أي حركة الشيء في نفس موضعه: حركة التوتر الكامنة في الجسم المعبد للاطلاق
كالسهم من قبل اطلاقه، مثلاً) و"حركة نقلة" (أي الانتقال من مكان إلى آخر، من مرحلة
إلى أخرى).
وواضح ان تصنيف الثقافة - أية ثقافة - إلى مرحلة إنما يستقيم حيث
تتخذ الحركة شكل حركة نقلة.
اما عندما تكون الحركة أشبه بحركة الاعتماد فإن
المرحلة الثقافية - أو مراحل تطور الفكر الشيء الذي يعني نفس الشيء - تظل متراكمة
متداخلة متزاحمة، لا هي "واحدة" ولا هي "متعددة" منفصلة، تماماً كما هو الشأن
بالنسبة لمحتويات اللاشعور حسب تصور فرويد.
وأكاد أقر ان الحركة في الثقافة
العربية كانت وما تزال حركة اعتماد لا حركة نقلة وبالتالي فزمنها مدة يسودها
"السكون" لا الحركة، وهذا على الرغم من جميع التحركات والاهتزازات والهزات التي
عرفتها.
هذه الدعوى تحتاج، بطبيعة الحال، إلى تبرير، وتبرير كاف.
ولعل القارئ
سينتهي معنا إلى نفس القناعة، أو على الأقل سيكون أكثر تفهماً لدوافع هذه الدعوى
عندما يأتي على آخر فصل من هذا الكتاب.
ومع ذلك فلا بد من تقديم بعض المؤشرات
التي تسمح بقبولها، ولو بصفة مؤقتة، والتي من شأنها ان تساعدنا، من زاوية أخرى، على
إغناء هذه التحديدات الأولية لموضوع دراستنا. . .
وفي هذا الإطار نتساءل: ألم يولد
النحو العربي كاملاً مع سيبويه؟ ألم تتحد أصول الفقه عندما مولدها مع الشافعي؟ ألم
تولد الكتابة التاريخية مع الإسلام " كاملة" أو شبه كاملة مع ابن إسحاق والواقدي؟
ألم يقدم الخليل بن احمد للناس المعجم العربي والعروض العربي كاملين؟ ألم تتحدد
مسائل علم الكلام مع واصل بن عطاء ومعاصرية؟ ألم يكتمل الشيعي فقهاً وكلاماً
وسياسية مع جعفر الصادق؟. . .
وأخيراً، وليس آخراً، ألم يعش هؤلاء وأمثالهم جميعاً
في عصر واحد التدوين، عصر البناء الثقافي العام الذي شكل وما زال يشكل الإطار
المرجعي للفكر العربي والثقافة العربية إلى اليوم كما سنبين في الفصل القادم؟ ولكي
ندرك أهمية هذه الدعوى بالنسبة لاهتماماتنا الحاضرة لا بد من عقد مقارنة ولو خاطفة
مع ما هو عليه الأمر في أوروبا.
ونحن نختار أوروبا لأن زمنها الثقافي المعاصر
يفرض نفسه علينا في كافة المجالات، فيضايق، بل يمزق فينا، زمننا الثقافي الخاص
بنا. .
زمننا الراكد الممتد.
في أوروبا يؤرخون للثقافة بالقرون انطلاقاً من
ميلاد المسيح فيقولون: الفكر اليوناني في القرن الرابع قبل الميلاد.
والفكر
الفرنسي أو الألماني، أو الأوروبي بكيفية عامة، في القرن الثامن عشر الميلادي
مثلاً.
إنهم بذلك يقيمون - سواء كان هذا مطابقاً للواقع التاريخي أو غير مطابق -
اتصالاً بين مراحل تطور الفكر الأوروبي فيجعلونه يمتد في وعيهم من القرن الثامن أو
التاسع قبل الميلاد إلى عصرنا الراهن: القرن العشرين.
وإذا أرادوا النظر إلى هذا
"الكفر الأوروبي" (الذي يمتد في وعيهم على مدى ثمانية وعشرين قرناً أو أكثر) من
زاوية ما اصطلحنا نحن هنا على تسميته بالزمن الثقافي صنفوه إلى ثلاثة عصور ثقافية:
العصر القديم (الاغريقي - اللاتيني) والعصر الوسيط (المسيحي) والعصر الحديث: اننا
هنا أمام استمرارية تاريخية تشكل إطاراً مرجعياً ثابتاً وواضحاً، وسواء كانت هذه
الاستمرارية حقيقية أو موهومة وسواء نظر إليها على أنها تمتد بحركة متصلة أو غير
"قطائع" فإن المهم هو وظيفتها على صعيد الوعي إنها "تنظم" التاريخ، وتفصل فيه بين
ما قبل وما بعد بصورة تجعل من المستحيل التطلع، حتى على صعيد الوعي الحالم، عودة ما
قبل ليحل محل ما بعد، وبعبارة أخرى إن هذه الاستمرارية - الحقيقية أو الموهومة، لا
فرق - تمد أصحابها بوعي تاريخي يجعلهم يتجهون إلى المستقبل دون يتنكرون للماضي،
وأيضاً دون أن يجعلوا هذا الماضي أمامهم فيقرؤون فيه مستقبلهم ان الماضي هنا يحتل
مكانه "الطبيعي" من التاريخ، وأيضاً - وهذا هو المهم - من الوعي بهذا
التاريخ.
أما نحن في العالم العربي فلا نؤرخ لثقافتنا بالقرون - إلا
تكلفاً.
فنحن ما زلنا نؤرخ لها بزمن الأسر الحاكمة، فنقول: الشعر أو الأدب، أو
الفكر العربي عموماً، وفي "العصر الأموي" أو في "العصر العباسي" أو في "العصر
الفاطمي". . .
الخ.
واذا تبنى بعضنا التصنيف الأوروبي كإطار مرجعي صنف الثقافة
العربية إلى زمنين: الثقافة العربية في "القرون الوسطى" والثقافة العربية في "العصر
الحديث"، أما "العصر القديم" فلا مكان له في "التاريخ" العربي، الشيء الذي يجعل "
القرون الوسطى" العربية هذه تفتقد الطرف الآخر الذي يبرر "وسطويتها".
ليس هذا
وحسب، بل أننا عندما نسير مع " التقليد" الأوروبي فنؤرخ لثقافتنا ب"القرون تجدنا
نستعمل التاريخ الهجري بالنسبة للزمن الأول زمن الثقافة العربية في "القرون الوسطى"
الذي نمدده إلى القرن السابع أو القرن الثامن الهجري، ثم ترانا نقفز إلى التاريخ
الميلادي بالنسبة للزمن الثاني، زمن الفكر العربي في "عصر النهضة" الذي نبدؤه مع
بداية القرن التاسع عشر الميلادي. . .
أما ما بين "القرون الوسطى" هذه و"عصر
النهضة" أي ما بين القرن الثامن الهجري أو الخامس عشر الميلادي وبين القرن الثالث
عشر الهجري أو التاسع عشر الميلادي ف"حلقة مفقودة" في التاريخ العربي. .
وأيضاً
ثغرة عميقة ومشوشة في الوعي العربي.
قد تبدو هذه الملاحظات غير ذات شأن، بل قد
يرى فيها البعض انحرافاً منا إلى "أمور مبتذلة"، ليكن ذلك.
ولكن لماذا نشعر أو
نحكم بأنها "غير ذات شأن" أو أنها من "الأمور المبتذلة"؟ يجب أن نعترف بأن ذلك راجع
إلى أننا ألفنا هذا "التاريخ الممزق".
وإذا نحن نظرنا إلى المسألة من خلال ما
نعبر عنه هنا بالزمن الثقافي واللاشعور المعرفي ادركنا خطورة هذا التاريخ الممزق
على صعيد الوعي التاريخي عند العرب.
إن الأمر يتعلق في الحقيقة بالتنقل بين
منظومتين مرجعيتين مختلفتين تماماً، لكل منهما زمنها الخاص، الشيء الذي يجعل وعينا
بالزمن محكوماً بوعينا بالمكان، فنتعامل هكذا مع الزمن كما نتعامل مع
المكان.
الزمن حاضر ساكن وإذا غاب عن وعينا جزء منه فغايبه يكتسي صورة الغياب
المكاني، الغياب الحسي، لا المعنوي، الغياب الذي يزول بعودة الحسن.
وهكذا يتناوب
الماضي مع الحاضر على ساحة الوعي العربي، بل قد ينافس الأول الثاني منافسة شديدة
حتى ليبدو وكأنه هو نفسه "الحاضر".
علام يدل هذا؟ انه يدل أولاً على أن تاريخ
الفكر العربي لم يكتب بعد، على أن تاريخ الثقافة العربية في حاجة إلى إعادة ترتيب،
على أن الزمن الثقافي العربي لم يتم بعد تثبيته ولا تعريفه ولا تحديده.
صحيح
أننا نفصل بين : 1) العصر الجاهلي، 2) العصر الإسلامي، 3) عصر النهضة.
ولكن هذا
الفصل سطحي تماماً، فنحن لا نعيشه في وعينا ولا في تصورنا كمراحل من التطور ألغي
اللاحق منها السابق، ولا كأزمنة ثقافية تتميز عن بعضها بمميزات خاصة تجعلها متصلة
أو منفصلة.
بل العكس، أننا ننظر إلى هذه "العصور" الثلاثة كجزر منفصلة، كل منها
معزولة عن الأخرى.
فالهوة التي تفصل، في وعينا، بين ما ندعوه " العصر الجاهلي"
وما نسميه ب"العصر الإسلامي" لا تقل عمقاً واتساعاً عن الهوة التي تفصل - ودائماً
في وعينا - بين "العصر الإسلامي" الذي نقف به عادة عند القرن الثامن الهجري و"عصر
النهضة" الذي نؤرخ له كما قلنا بالقرن التاسع عشر الميلادي.
والنتيجة هي حضور
هذه "الجزر الثقافية " الثلاثة في الوعي العربي الراهن حضوراً متزامناً.
نقصد
بذلك ان الواحد منا عندما يتنقل بوعيه من "العصر الجاهلي" إلى "العصر الإسلامي" إلى
"عصر النهضة" لا يشعر أنه ينتقل من زمن إلى زمن بل لربما يحس فقط أنه يقفز من مكان
إلى آخر: من الجزيرة العربية (معلقات الكعبة، سوق عكاظ. . . ) إلى بغداد (العباسيين)
إلى القاهرة ( في العهد الفاطمي) إلى فاس وقرطبة ( في عصر الموحدين). . .
إلى مصر
محمد علي والطهطاوي ولطفي السيد. .
أو جزائر ابن باديس. . . . الخ.
هذه الملاحظة
تقودنا إلى ملاحظة أخرى تعبر عنها هنا ب"تداخل الأزمنة الثقافية" في فكر المثقف
العربي، وذلك على الصعيدين المعرفي والإيديولوجي.
فعلى الصعيد المعرفي ما زال
المثقف العربي، كما كان منذ "العصر الأموي" يستهلك معارف قديمة على أنها جديدة،
سواء كان مصدرها عربياً "خالصاً" أو كانت من "الدخيل" الوافد.
تلك كانت حالته
بالأمس، وتلك هي حاله اليوم. . .
وأما على الصعيد الإيديولوجي فإن هذا المثقف كان
منذ "العصر الأموي" كذلك، وما يزال إلى اليوم، يعيش في وعيه صراع الماضي متداخلاً
مع أنواع الصراعات الأخرى التي يشهدها حاضره، أما إذا أضفنا إلى هذا وذاك مفعول
الترجمة والاحتكاك المباشر بالثقافات الأجنبية، سواء في "العصور الوسطى" أو في
"العصر الحديث"، فإن "تداخل الأزمنة الثقافية" في فكر المثقف العربي سيغطي
المستويين الأفقي والعمودي - السانكروني والدياكروني - في وعيه، بصورة يصعب معها
فرض أي نوع من النظام والتراتب داخل هذا الوعي.

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد

 
معلومات التواصل

  location

  06300864 967+

 info@akhbaralyom.net


© جميع الحقوق محفوظة © 2013-2023 صحيفة أخبار اليوم