كتاب
تعلق منها بتداخل الأزمنة الثقافية أو بالترحال الثقافي في الفكر العربي أو بما
يسود تاريخنا الثقافي من فوضى وانقطاع، تطرح مشكلة التقدم في هذا الفكر ومن ثمة في
الثقافة العربية عموماً، والواقع أن هذه القضية كانت مطروحة علينا منذ البداية، أي
منذ أن بدأنا نناقش ما نقصده ب"العقل العربي" وبكيفية خاصة منذ أن بدأنا نتحدث عن
وحدة الزمن الثقافي العربي وركوده،
ومهما يكن فلعله أصبح واضحاً الآن، بعد الملاحظات السابقة، أنه لا يمكن كتابة تاريخ
"مطابق" للثقافة العربية ولا تحويل الوعي الثقافي العربي من وعي لا تاريخي إلى وعي
تاريخي إلا إذا تم الفصل، ولو بصورة مؤقتة، ولكن منهجية، في هذه المشكلة، مشكلة
التقدم في الفكر العربي والثقافة العربية نقول بصفة مؤقتة إيماناً منا بأن أي رأي
في الموضوع سيظل، ويجب أن يبقى، قابلاً للتعديل والتغيير، ما دامت معلوماتنا عن
تراثنا ناقصة في أكثر من مجال، وما دامت مناهجنا في البحث لا تلتزم بالشروط العلمية
كاملة نظراً لحاجتنا "المتواصلة" إلى تأكيد الذات أمام التحديات التي تواجهنا من كل
ناحية. .
بل، وقبل ذلك كله وبعده، لأن التاريخ لا يكتب مرة واحدة، بل تعاد كتابته
باستمرار، وإذن ففي هذا الإطار ندلي بالملاحظات التالية حول مشكلة التقدم في الفكر
العربي.
إن الفكرة السائدة عن تطور الفكر العربي والثقافة العربية عموماً فكرة
بدائية تماماً وبسيطة تماماً، ولذلك تبدو بديهية لا تحتاج إلى برهان: أننا نتصور
الفكر العربي يبدأ بداية متواضعة، أو على هذه الدرجة أو تلك من الأهمية، في نقطة ما
داخل ما نسيمه ب"العصر الجاهلي" وهو فترة ثقافية تمتد حسب غالبية الأقوال ما بين
خمسين ومائة سنة قبل الإسلام، ثم يواصل الفكر العربي تقدمه مع بداية الإسلام
على شكل خط صاعد إلى حوالي القرن الثامن الهجري ليبدأ بعد ذلك ما نسيمه ب"عصر
الانحطاط" الذي يمتد على شكل خط أفقي متقطع (علامة على التوقف والركود) سرعان ما
يهوي إلى أسفل (علامة على التراجع والانحدار).
بعد ذلك يبدأ تاريخ جديد للفكر
العربي انطلاقاً من بدايات القرن التاسع عشر الميلادي، تاريخ بداية ما نسميه ب"عصر
النهضة العربية الحديثة"، التي نتصورها تواصل التقدم على شكل خط صاعد. .
إنها
صورة مغرية ومريحة، لأنها تبدو بسيطة واضحة، ولكن ما إن يبدأ المرء يقلب النظر فيها
حتى يبدأ الضباب يتسرب إليها من كل ناحية، فلنمعن النظر فيها قليلاً.
واضح أن
الصورة التي رسمناها أعلاه ل"تطور" الفكر العربي ترتكز على التسليم بثلاث بدايات،
فمن جهة هناك البداية الأولى التي تنطلق من نقطة ما داخل "الجاهلية" ، ومن جهة
ثانية هناك البداية الثانية التي تنطلق مع انطلاقة الإسلام لتشكيل بداية "التاريخ"،
باعتبار أن ما قبلها كان عبارة عن " ما قبل التاريخ"، وأخيراً هناك من جهة ثالثة
بداية النهضة العربية الحديثة التي ينظر إليها هي الأخرى على أنها بداية "تاريخ
جديد". .
وواضح أنه في وضعية كهذه لا يمكن التفكير في "التقدم" إلا انطلاقاً من
إحدى البدايات الثلاث وداخل زمنها الخاص، وبعبارة أخرى لا يمكن الحديث عن تاريخ
واحد للفكر العربي والثقافة العربية، بل لا بد من الأخذ بثلاثة "تواريخ" يؤرخ أحدها
للعصر الجاهلي ويؤرخ الآخر للعصر الإسلامي ويؤرخ الثالث لعصر النهضة.
وليس هناك
ما يلزم المؤرخ في إطار هذا التصور على ربط أحد هذه التواريخ بالأخر، لأن كلا
منها يؤخذ بمفرده مستقلاً بنفسه وليس على أنه سبب أو نتيجة، نستطيع الذهاب بعيداً
مع هذا التصور فنتساءل: من يستطيع أن يقول مع شيئ من الجدية في القول: أن العصر
الإسلامي كان نتيجة أو استمراراً للعصر الجاهلي أو أن عصر النهضة كان امتداداً
للعصر الإسلامي؟ وواضح أن الأمر لا يعني أن هناك "قطيعة معرفية" بين هذا أو ذاك
تقطع الاستمرارية، بل إن الأمر يتعلق أساساً بثلاث "جزر" منفصلة بعضها عن بعض،
وبالتالي فمشكلة "التقدم" في الفكر العربي، بهذا الاعتبار، لن يكون لها من معنى إلا
داخل العصر الجاهلي بمفرده، أو العصر الإسلامي بمفرده، أو عصر النهضة
بمفرده.
ليس هذا إلا وجهاً واحداً من الصورة، أما الوجه الآخر فيطل علينا إذا
نحن طرحنا المسألة، مسألة التقدم في الفكر العربي، على مستوى القطيعة المعرفية، أو
"الطفرة" إذا كان لابد من استعمال اللغة الجدلية، إننا إذا طرحنا المسألة على هذا
المستوى فسنكون مضطرين لإعادة النظر بصورة جذرية في الصورة السابقة "الواضحة" و
"المريحة"، خصوصاً ونحن نعلم أن مشروع النهضة العربية الحديثة قام، وما زال يريد أن
يقوم على "بعث ما مضى"، لا على القطيعة معه.
وبالمثل فنحن نعلم أن الإسلام لم
يقم من أجل "نفي" الماضي والقطيعة معه، بل من أجل "التصحيح". .
من أجل رد الناس
إلى دين إبراهيم، جد العرب.
هذا إذا اقتصرنا على النظر إلى المسألة في إطار
الزمن وحده، أما إذا حاولنا الربط بين الزمان والمكان فإن الصورة ستعتم أمامنا بشكل
يبعث على الحيرة والقلق.
ذلك أن ما نسمية بالعصر الجاهلي مثلاً لا يخص من ناحية
المكان إلا منطقة واحدة من المناطق العديدة التي يغطيها، الآن وقبل الآن، الفكر
العربي، منطقة "جزيرة العرب" هكذا بين مزدوجتين، لأن العصر الجاهلي لم يغطها كلها
وإنما مناطق معينة منها، أما ما عدا تلك المناطق كسورية وفلسطين والعراق بالإضافة
إلى مصر وشمال أفريقية والأندلس فهي لا تدخل في الإطار الزماني المكاني الذي
يتحدد به ما نسميه" العصر الجاهلي"، ولكن هذا لا يعني أن هذه المناطق لم تكن ترتبط
به بل بالعكس: أن جميع الأقطار العربية قد عاشت بعدياً "العصر الجاهلي" ذاك وما
زالت تعيشه كجزء من تاريخها ثقافية، عاش بعضها بعدياً ما سبق أن عاشه بعضها الآخر
من قبل، فلقد عاشت القاهرة أيام الفاطميين بعدياً ما عاشته بغداد في أوج العصر
العباسي، وعاشت فاس وقرطبة بعدياً كذلك ما عاشته من قبل كل من القاهرة
وبغداد.
وقد نتج عن ذلك ما يمكن أن يعبر عنه ب"ظاهرة الاجترار الثقافي" التي ما
زالت تحملها معها المؤلفات الكثيرة التي وصلتنا والتي يكرر بعضها بعضاً بشكل يجعلها
جميعاً تحمل ثقافة لا حركة فيها سوى ذلك النوع من الحركة الذي سماه النظام ب"حركة
الاعتماد" والذي سبقت الإشارة إليه، وهذا على الرغم مما يفصل بين مؤلفيها من مسافات
على سلم الزمن "الطبيعي".
وإذا نحن انتقلنا إلى الفكر العربي في عصر النهضة
وجدنا أنفسنا أمام نفس الظاهرة، ذلك لأنه إذا جعلنا بداية هذا العصر في أوائل القرن
التاسع عشر كما هو الشائع فإن هذا لن يكون له معنى على صعيد المكان، إلا بالنسبة
لمصر والشام، أما البلاد العربية الأخرى فلقد عاشت هذه البداية نفسها بعدياً
وبدرجات متفاوتة، ففي المغرب مثلاً عشنا ما بين الثلاثينيات والخمسينيات من هذا
القرن ما عاشته مصر والشام بين أوائل القرن الماضي ومنتصف هذا القرن، الشيئ الذي
يعني أننا في المغرب عشنا في ربع قرن ما عاشته بلاد عربية أخرى في قرن ونصف،
وبالتالي فإن التزامن الثقافي في الوطن العربي، مغرباً ومشرقاً، لم يبدأ إلا
انطلاقاً من منتصف الخمسينيات من هذا القرن، أما قبل ذلك فلقد كنا في المغرب نعيش
"ماضي" النهضة في المشرق على أنه "مستقبل" النهضة في المغرب، ومن دون شك فإن ما حصل
من تفاوت بين المغرب والمشرق في هذا المجال حصل كذلك بين بلدان المشرق بعضها مع
بعض.
تقودنا الملاحظات السابقة إلى تقرير نتيجتين متعارضتين: هناك من جهة تداخل
بين "العصور" الثقافية في الفكر العربي، منذ الجاهلية إلى اليوم، مما يجعل منها
زمناً ثقافياً واحداً يعيشه المثقف العربي، في أي مكان من الوطن العربي، كزمن راكد
يشكل جزءاً أساسياً وجوهرياً من هويته الثقافية وشخصيته الحضارية.
والسمة
البارزة في هذا الزمن الثقافي العربي الواحد هي حضور القديم، لا في جوف الجديد
يغنيه ويوصله، بل حضوره معه جنباً إلى جنب ينافسه ويكبله.
وهناك من جهة أخرى
انفصال بين الزمان والمكان في التاريخ الثقافي العربي انفصالاً جعل بعض البلاد
العربية تعيش بعدياً على صعيد الفكر والثقافة والوعي ما عاشه بعضها الآخر من قبل،
الشيء الذي يعني غياب التزامن الثقافي على صعيد الوطن العربي،أو على الأقل عدم
تحققه كاملاًً في أية فترة من فترات التاريخ العربي إلى اليوم.
فكيف نتعامل مع
هذين الواقعين المتعارضين؟ ليس ثمة شك في أن هاتين الظاهرتين المتعارضتين تعكسان
بصورة خاصة ولربما مباشرة، معطيات التاريخ السياسي العربي "الفتوحات، تحول العواصم
أو كراسي الملك بتعبير ابن خلدون مع انتقال الحكم من أسرة إلى أسرة، استقلال بعض
الأقطار العربية والإسلامية بنفسها سياسياً منذ وقت مبكر، تغير الخارطة السياسية
للبلاد العربية كأقطار وعدم استقرار الحدود بينها، ارتباط الثقافة عموماً بالدولة
وأجهزتها. .
إلخ" ولا جدال كذلك في أن ذلك يرجع أيضاً إلى طبيعة وسائل الاتصال
الثقافي التي كانت متوفرة، وبكيفية خاصة عدم وجود الطباعة وتأخر انتشارها على صعيد
الوطن العربي ككل. .
غير أن ما يهمنا هنا ليس تفسير هاتين الظاهرتين، ظاهرة تداخل
العصور الثقافية مع غياب التزامن الثقافي في الفكر العربي، قديماً وحديثاً، فسواء
التمسنا لهما أسبابهما وعوامل تكونهما في هذا المجال أو ذاك، في هذه المعطيات أو
تلك، فإننا سنجد أنفسنا في جميع الأحوال أمام مظهرين متناقضين علينا أن نتعامل
معهما بهذه الصورة أو تلك ، وبالتالي فالسؤال: كيف ينبغي التعامل معهما؟ يظل
قائماً.
صحيح أننا هنا لا ننطلق من موقف وضعي يكتفي بوصف الظاهرة لا غير، بل
إننا بالعكس من ذلك نطمح إلى التفسير في اتجاه التغيير، فموضوعنا هو نقد العقل
العربي وليس مجرد وصفه أو "تحليله"، ولكننا مع ذلك نحرص على أن لا نجعل الرغبة في
"التفسير والتغيير" تقفز بنا على طبيعة الواقع الذي نتعامل معه وتجعلنا نغفل
بالتالي عن التفكير في كيفية التعامل معه من أجل تفسيره وتغييره.