كتاب
ظاهرة "التسابق إلى ما قبل" في الجدل السني الشيعي حول صحة "علم" كل
منهما.
وهكذا فلكي يكتسي "العلم" السني مصداقية أقوى من تلك التي يتمتع بها
منافسه الشيعي المدون في عهد جعفر الصادق، رجع بعض رجال السنة بتدوين الحديث عندهم
إلى زمن عمر بن عبدالعزيز الذي تولى الخلافة ما بين سنتي 99 101 ه.
وفي هذا الصدد
تروى أخبار تقول أن عمر بن عبدالعزيز كتب إلى أهل الآفاق أن "أنظروا إلى حديث رسول
الله صلى الله عليه وسلم فاجمعوه".
ولكي يرد الشيعة على هذه الدعوى رجعوا بتاريخ
تدوين الحديث عندهم إلى ما قال عمر بن عبدالعزيز، بل إلى عهد النبوة.
يقول السيد
حسن الصدر، أحد كبار علماء الشيعة المتوفى سنة 1354 ه بعد أن ناقش آراء أهل السنة
في تدوين الحديث ورد عليها، يقول: وإذا عرفت هذا فأعلم أن الشيعية أول من تقدم في
جمع الآثار والأخبار في عصر خلفاء النبي المختار عليه وعليهم الصلاة والسلام،
فاقتدوا بإمامهم "علي " أمير المؤمنين عليه السلام" ثم يشير إلى أن سلمان الفارسي
كان أول من صنف في الآثار" وأن أبا ذر الغفاري كان أول من صنف الحديث والآثار بعد
المؤسسين"، وأن أبن أبي رافع المتوفي في أول خلافة علي ، أي حوالي سنة 35 ه، قد
ألف كتاباً بعنوان "السنن والأحكام والقضايا" وبذلك يكون أبو رافع ، وقد كان مولى
للرسول، هو أقدم في "التأليف بالضرورة".
وإذن فسكوت الذ هبي صاحب النص الذي نحن
بصدده عن "تدوين العلم وتبويبه" عند الشيعة ليس سكوتاً صادراً عن سهو وعن دافع شخصي
بل هو في الحقيقة سكوت من جانب السلطة المرجعية، المعرفية والإيديولوجية التي ينتمي
إليها صاحب النص، السلطة التي تحدد الحقل المعرفي الإيديولوجي لأهل السنة
كافة.
ونفس الشيء يصدق أيضاً على سكوت الشيعة عن "تدوين العلم وتبويبه" لدى أهل
السنة.
ومهما يكن من أمر هذا التنافس السني الشيعي حول الأسبقية في التدوين،
فإن التدوين، بالمعنى الذي حددناه به قبل، أي باعتباره عملية بناء وإعادة بناء
شاملة للثقافة العربية الإسلامية، إنما تم فيما اصطلح عليه ب"عصر التدوين" ، أي في
الفترة التي تمتد ما بين منتصف القرن الثاني للهجرة ومنتصف القرن الثالث.
وإذن ،
فعملية تدوين الحديث وما يتصل به من "سيرة" وأخبار وكذلك تدوين اللغة وتقعيدها، كل
ذلك تم في زمن واحد وفي أهم الأمصار الإسلامية يومئذ.
ذلك لأنه سواء أخذنا
بالتاريخ الذي حدده الذهبي أو أدخلنا عليه بعض التعديل، فمن الثابت تاريخياً أن
الرجال الذين نسب إليهم "تدوين العلم وتبويبه" قد قاموا بذلك فعلاً، وقد كانوا
معاصرين لبعضهم بعضا ويسكون الأمصار التي حددها النص.
وما نريد التأكيد عليه هنا
هو أن هذا العمل الذي تم في وقت واحد وفي أمصار متباعدة لا يمكن أن يحدث هكذا
تلقائياً وبمجرد المصادفة.
إنه لابد أن تكون الدولة وراء هذه الحركة العلمية
الواسعة التي كانت تستهدف "ترسيم" الدين، إذا صح التعبير "أي جعله جزءاً من الدولة
وفي خدمتها"، مثلما أن عمل الشيعة في هذا المجال كان يهدف بالمقابل إلى "ترسيم"
المعارضة السياسية، أي إضفاء المشروعية الدينية عليها.
لقد كانت الشيعة من قبل
تواجه الدولة مواجهة سياسية عسكرية، أما الآن فقد تحولت، مؤقتاً على الأقل ومع جعفر
الصادق، من العمل السياسي المباشر ضد الدولة إلى البناء الثقافي الشامل الذي نتحدث
عنه كان يؤسسه تنافس شديد بين أهم فرقتين في الإسلام التنافس على إعادة بناء
الموروث العربي الإسلامي بالشكل الذي يجعل الماضي في خدمة "الحاضر" : حاضر أهل
السنة وحاضر الشيعة، وبالتالي مستقبل كل منهما.
وغني عن البيان القول أن التنافس
على إعادة بناء الموروث الثقافي الديني والفكري ، العربي الإسلامي، ينطوي في ذات
الوقت على عملية أخطر وابعد أثراً، أعني التنافس على تشكيل العقل العربي، العقل
الذي ينتمي إلى هذا الموروث نفسه، وإذا كان كثير من المستشرقين يتحدثون عن "إسلام
سني" و"إسلام شيعي" فلعل التمييز في الثقافة الإسلامية بين "عقل سني" و"عقل شيعي"
يكون أقرب إلى الصواب، باعتبار أن الأمر يتعلق لا بعقيدتين بل بنظامين معرفيين
مختلفين يقرآن نفس العقيدة. .
وهذا ما سيتضح فيما بعد.
هناك جوانب أخرى
أساسية لم يذكرها النص الذي نحن بصدده ولا غيره من النصوص السنية التي تتحدث عن
"تدوين العلم وتبويبه" ، لأنها لا تدخل، حسيب اصطلاحهم في دائرة "العلم "بمعنى "
المرويات.
من هذه الجوانب المسكوت عنه: علم الكلام من جهة و"علوم الأوائل" من
جهة أخرى، إذ من الثابت تاريخياً أن التدوين في القضايا التي ستشكل ما سيسمى فيما
بعد ب"علم الكلام" ، كان قد بدأ قبل التاريخ الذي حدده الذهبي واستمر إلى ما
بعده.
وتكفي الإشارة هنا إلى "المؤلفات" العديدة التي يذكرها مؤرخو الفرق
والطبقات لواصل بن عطاء المتوفي سنة 131ه وهي مؤلفات يذكر هؤلاء أنهم اطلعوا عليها
مما يؤكد وجودها الفعلي.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى هناك إجماع من طرف معاوية ابن
أبي سفيان المتوفي سنة 85ه.
فلقد استدعى هذا الأمير الأموي الذي فقد حقه في
الخلافة جماعة من اليونانيين ممن كانوا في الإسكندرية ومدرستها العلمية الشهيرة
ويقال أنه سافر هو نفسه إلى هناك وطلب منهم أن ينقلوا له إلى العربية بعض الكتب
اليونانية والقبطية خاصة منها كتب الكيمياء التي تشرح كيفية تحول المعادن الخسيسة
إلى فضة وذهب.
ولعل كيمياء جابر بن حيان الذي يجعل نفسه تلميذاً لجعفر الصادق هي
امتداد للعمل الذي دشنه خالد بن يزيد، هذا الأمير الذي تنسب إليه المراجع أيضاً نقل
كتب في الطب كبعض كتب جالينوس.
وفي هذا الصدد تنسب المراجع إلى عمر بن عبدالعزيز
إذاعة كتاب في الطب كان قد ترجم من السريانية إلى العربية في عهد مروان بن
الحكم.
ولابد من الإشارة هنا إلى مظهر آخر من مظاهر "التدوين" باللغة العربية
نقصد بذلك "تعريب الدواوين" أي سجلات ودفاتر الحكومة، ولنقل تعريب الإدارة.
ذلك
أن الشؤون الإدارية في الدولة العربية الإسلامية كانت في أول أمرها بيد "فنيين
أجانب" من الروم والفرس، وكانت لغة الإداري لغة الوثائق خاصة هي الفارسية في
العراق واليونانية في الشام ومصر.
لقد شرع في تعريب الإدارة في زمن عبدالملك بن
مروان "65 86 ه" أي في نفس الفترة التي بدأ فيها خالد بن يزيد الاشتغال بترجمة
الكيمياء والطب والتنجيم.
إن تعريب الدواوين كان حدثاً تاريخياً هاماً، تعدى
أثره الميدان الإداري: فمن جهة كان هذا التعريب تطويعاً للغة العربية ، لغة الشعر
والخطابة، "الكلمات القصار" " = الأمثال" وإغناء لها بتحويلها إلى لغة حضارية
علمية، ومن جهة أخرى كانت عملية التعريب تلك، لا تعريباً للدواوين وحسب بل أيضاً
تعريباً لكتاب الدواوين، أي للأطر الفنية "الأعجمية" التي كانت تتولى الشؤون
الإدارية في الدولة العربية.
ذلك أن هؤلاء الفنيين الأعاجم من فرس ويونان وغيرهم
قد اضطروا إلى تعلم اللغة العربية للحفاظ على مناصبهم ومكانتهم الاجتماعية، ومن دون
شك فلقد عملوا على تعليم أبنائهم" اللغة الرسمية" للدولة، لغة الضاد، الشيء الذي
لابد أن يكون أحد العوامل الخفية التي حركت إلى جمع اللغة وتقعيدها.
هكذا تكون
اللغة الغربية ، ومن ورائها الفكر العربي الإسلامي، قد اغتنت بعملية تعريب الدواوين
في مجالين : مجال المصطلحات والمفاهيم والتراكيب الفنية، ومجال الأطر أو
الكوادر.
ولا شك أنه كان للجانبين معاً أثر إيجابي بالغ الأهمية في إعداد اللغة
العربية وإعداد الأطر، سواء بسواء، لعصر التدوين، عصر البناء الثقافي العام الذي
بلغ أوجه مع "بيت الحكمة" التي أنشأها ورعاها الخلفاء العباسيون في بغداد.
ومن
الجوانب الأخرى التي سكت عنها النص الذي نحن بصدده والتي تشكل جزءاً له قيمته في
عملية البناء الثقافي الشامل تلك، التدوين في السياسة.
لقد تولى عبدالله بن
المقفع المتوفي سنة 142 ه ترجمة الأدبيات السياسية الفارسية وتعريبها، أي تحويلها
إلى خطاب عربي موجه إلى الدولة العربية ورجالها، خدمة للمعارضة وقضيتها.
هنا
أيضاً لا بد من ملاحظة أن اتجاه ابن المقفع الفارسي الذي شك معاصروه في "حسن
إسلامه" إلى التأليف في الأدبيات السياسية لا يمكن أن يكون مجرد مصادفة: فعلاوة
على كتابه "الأدب الكبيرة" الذي شحنه بالحكم والأمثال ذات المدلول السياسي
الاجتماعي، هنا "رسالة الصحابة" التي هي بمثابة بيان سياسي دستوري يطرح ضرورة تنظيم
الدولة على أساس علماني.
أما كتابه الأشهر "كليلة ودمنة" فعلى الرغم من أصله
الهندي الفارسي فإن ترجمته إلى العربية ذات مغزى سياسي واضح، هذا فضلاً عن الباب
الذي أضافه ابن المقفع ، باب بروزية، الذي يطرح اختلاف الأديان وتصارعها وبالتالي
ضرورة اعتماد "العقل" وحده والحق أن مما يلفت النظر في كتابات ابن المقفع هو طابعها
"العلماني" ، فهولا يستشهد لا بالقرآن ولا بالحديث ولا بأي عنصر آخر من الموروث
الإسلامي، بل بالعكس يدعو صراحة إلى الأخذ من "الموروث القديم" السابق
للإسلام.