كتاب
حنطت. . ولكن الحياة الاجتماعية لا تجمد ولا تتحنط، لقد انتقمت لنفسها بفرض لهجات
"عربية" عامية كانت وما تزال "أغنى" كثيراً من اللغة الفصحى، ومن دون شك فإنها كانت
كذلك في عصر التدوين نفسه، وهنا تكمن المفارقة الخطيرة بل التمزق الرهيب الذي عانى
ويعاني منه الإنسان العربي إلى اليوم: ذلك أنه من جهة، يتوفر على لغة للكتابة
والتكفير على درجة عالية من الرقي من حيث آلياتها الداخلية، ولكن هذه اللغة
ذاتها لا تسعفه بالكلمات الضرورة عندما يريد التعبير عن أشياء العالم المعاصر، عالم
القرن العشرين الذي يعيش فيه ويفرض نفسه عليه في كل مجال، وإذا كان المثقف العربي
يتوفر اليوم، أو بإمكانه أن يتوفر، على جملة من المفاهيم والمصطلحات التي فكر بها
أجدادنا في قضاياهم أو في القضايا المنقولة إليهم، فإنه يفتقد المادة اللغوية
الضرورية للتعبير عن الجانب العلمي، الصناعي والتكنولوجي خاصة، في عالمنا المعاصر،
وذلك إلى درجة إننا لو قررنا عدم النطق إلا بالألفاظ العربية التي تعترف بها
قواميسنا علينا أن نزيح عن عالمنا جميع الأشياء الحضارية، المادية الفكرية، التي
تشكل قوام العالم المعاصر.
ولكن هذا ليس إلا مظهراً واحداً من المشكل، ذلك أن
المثقف العربي الذي يتكلم بالضرورة لغة عامية هي "أغنى" بكثير من العربية الفصحى في
مجال الأشياء الحضارية لكونها تقتبس أسماءها من لغات أخرى مع بعض "التكسير" لا
يستطيع التعامل بها فكرياً، إن العامية رغم غناها "التكنولوجي" الحضاري لا تتوفر
على الأدوات والآليات الضرورية للتفكير، فهي ليست لغة ثقافة وفكر، ومن هنا فقرها
المدقع رغم غناها الظاهري، والنتيجة هي أن المثقف العربي سواء كان طالباً أو
أستاذاً يعيش عالمين كلاهما قاصر: عالم لغته العامية وعالم اللغة الفصحى، أما الأمي
العربي وهو الذي يشكل الأغلبية فهو مسجون في عاميته يتعامل مع أشياء لا يسمها،
وإذا فعل سماها بأسماء أجنبية مع بعض "التكسير" الضروري الذي لا شك في أنه يترك
أثره العميق في عقله، في بنيته الفكرية، أما ذلك العربي ا لذي يعرف لغة أجنبية
واحدة أو أكثر فهو يعيش ثلاثة عوالم مختلفة: إنه "يملك" ثلاثة تصورات ل"العالم":
يفكر بلغة أجنبية، ويكتب بلغة عربية فصحى، ويتحدث في البيت والشارع، بل وفي
الجامعة، باللغة العامية.
لنترك مشكل التعدد والازدواجية جانباً ولنظر فقط في
الكيفية التي تحدد بها اللغة العربية الفصحى لغتنا الرسمية الأم نظرتنا نحن
العرب إلى العالم ولنتجه باهتمامنا إلى المادة اللغوية أولاًً، ثم إلى القوالب
الصرفية والنحوية ثانياً، ثم ، أخيراً، إلى الأساليب البيانية.
4 إذا كانت
الفلسفة هي "معجزة" اليونان فإن علوم العربية هي "معجزة" العرب، والحق أن ذلك العمل
العظيم الذي تم في عصر التدوين على مستوى جمع اللغة وتقعيدها كان بالفعل أشبه شيئ
بالمعجزة، وهل المعجزة شيء آخر غير "خرق العادة"؟ ثم هل هناك "خرق للعادة" أبلغ
وأعمق من تلك السرعة التي تم بها الانتقال بلغة قائمة على "الفطرة والطبع"، لغة لا
يمكن تعلمها ولا فهمها إلا بالعيش وسط القبائل التي تتكلمها، إلى لغة قابلة لأن
تكتسب وتتعلم بنفس الطريقة التي يكتسب بها العلم: طريقة المبادئ والمقدمات
والمنهجية الصارمة؟ بالفعل، لقد كان تدوين اللغة أكثر كثيراً من مجرد "تدوين" بمعنى
تسجيل وتقييد" إنه الانتقال باللغة العربية من مستوى اللاعلم إلى مستوى العلم، أن
جمع مفردات اللغة وإحصاءها وضبط طريقة اشتقاقها وتصريفها ووضع قواعد لتراكيبها
واختراع علامات لرفع اللبس عن كتابتها. .
كل ذلك لا يمكن أن يوصف بأقل من إنشاء
علم جديد هو علم اللغة العربية، لا بل إنشاء لغة جديدة هي اللغة العربية
الفصحى.
وسواء ربطنا عملية جمع اللغة وتقعيدها بالرغبة في إنقاذ لغة القرآن من
الانحلال والانحراف، وبالتالي الذوبان، بسبب تفشي "اللحن" في المجتمع الإسلامي
الجديد الذي أصبحت الكثير فيه خلال عصر التدوين غير عربية ولا تعرف العربية، أو
ربطناها بحاجة الكتاب الفرس إلى تعلم اللغة العربية للحفاظ على امتيازاتهم ومناصبهم
بعد تعريب الدواوين كما يقترح ذلك بعض الباحثين المعاصرين، فإن النتيجة واحدة وهي
أن العملية أسفرت عن تحويل اللغة العربية من لغة غير علمية "أي قابلة للتعلم بطرق
علمية" إلى لغة علمية، لغة تخضع لنفس النظام الذي يخضع له أي موضوع علمي
آخر.
ولا يمكن للمرء إلا أن يزداد إعجاباً وتقديراً لهذا العمل العظيم حينما
يأخذ بعني الاعتبار المدة الوجيزة التي تم فيها انجازه والمجهودات الجبارة التي
بذلها طواعية وبدون أجر رجال ندبوا أنفسهم وصرفوا من أموالهم ولسنين طويلة لانجاز
هذه المهمة الشاقة التي لم يكونوا، بالتأكيد يطلبون من ورائها أي مكسب، لقد أمدوا
الأجيال اللاحقة بلغة مضبوطة مقننة قابلة للتلقي والتعلم وبالتالي قادرة على حمل
الثقافة والعمل من السلف إلى الخلف.
على أن ما هو جدير بالإعجاب هو دقة المنهج
الذي اتبع في ذلك المسح الشامل للغة العرب، لا بل للغة قبائل عديدة لكل منها لهجتها
العربية، وإذا كنا لا نستطيع اليوم البت فيما إذا كانت اللغة العربية التي خلدها
عصر التدوين هي الأصل في تلك اللهجات، أو أن هذه الأخيرة هي التي تأسست عليها اللغة
المجموعة، فإن المنهج الذي اتبع في تحويلها إلى لغة مقننة كان من الدقة والصرامة
بحيث فرض عليها نظاماً صارماً لا بد أن يكون له تأثير في كيانها الداخلي ذاته
والتالي لا بد أن يكون قد جعل الصنعة فيها تزاحم السليقة والفطرة، وإذا جاز لنا
اليوم الطعن في هذا المنهج بسبب صلابته التي حجمت اللغة وضيقت فيها القدرة على
مسايرة التطور والتجدد، فإننا لا نملك مع ذلك إلا أن نقف مندهشين أمام دقته وسلامة
خطواته وصرامة منطقة الداخلي.
وسواء كان الخليل بن أحمد الفراهيدي "100 170ه"
قد أنجز مشروعة كاملاً أو أن أحد تلامذته من بعده " الليث من ولد نصر بن سيار" هو
الذي تممه، وسواء استقى الخليل المبدأ الذي اعتمده في ترتيب حروف الهجاء في معجمه
"انطلاقاً من حروف الحلق إلى حروف الشفتين على طريقة علماء السنكسريتية من الهنود"
أو أن ذلك الترتيب كان من ا بتكاره، فإن ما يشد الباحث الايبيستيمولوجي المعاصر إلى
طريقة الخليل في جمع اللغة وهيكله معجمه "كتاب العين" هو المبدأ المنهجي الذي
اعتمده في فرض النظام على شتات اللغة، أنه مبدأ لا يمكن أن يعتمده ولو منقولاً
إلا عقل رياضي فذ، عقل لا يتناقض قط مع الحاسة الموسيقية المرهفة التي مكنت الخليل
نفسه من استنباط أوزان الشعر العربي "من تحليل القصائد وتقطيع الأبيات" وبالتالي من
تأسيس علم جديد هو علم العروض، وكيف يتناقض الحدس الرياضي مع الحاسة الموسيقية وقد
كانت الموسيقى يومئذ فرعاً من الرياضيات؟ لقد اتجه الخليل بن أحمد بحاسته الموسيقية
المرفهة إلى الشعر العربي فاستخلص منه القوالب الخفية اللامرئية التي يصب فيها،
واتجه بعقله الرياضي إلى وضع قوالب نظرية، افتراضية، لا تعدم أصولاً في واقع اللغة،
فوزع عليها النطق العربي، منطلقاً في البداية من "الامكان الذهني" غير آبه
ب"الإمكان الواقعي" إلا في مرحلة التجربة والتحقق، المرحلة التي يتم فيها الانتقال
من العلم الرياضي، الصوري، إلى العالم الواقعي المشخص.
ليس هذا وحسب بل إنه
ليخيل إلينا أن الخليل بن أحمد بتعامله مع الحروف الهجائية العربية الثمانية
والعشرين كمجموعة أصلية اشتق منها كل المجموعات الفرعية الكامنة فيها والتي تشتمل
على عنصرين إلى خمسة عناصر، إنما كان يطبق بوعي جانباً أساسياً من العمل الرياضي
المؤسس لنظرية المجموعات في صيغتها المعاصرة: يتعلق الأمر هنا بالمبدأ الذي بنى
عليه الخليل معجمه الشهير، والذي كان أول معجم في العربية، بل لربما أول معجم من
نوته في تاريخ اللغات، لقد لاحظ الخليل أن الكلمات العربية هي إما ثنائية أو ثلاثية
أو رباعية أو خماسية، أما ما فوق ذلك فحروف زائدة يمكن الاستغناء عنها برد المزيد
إلى المجرد. .
وبناء على ذلك أخذ يركب الحروف الهجائية العربية بعضها مع بعض مثنى
وثلاث ورباع وخماس مستفداً في ذلك كل التراكيب الممكنة " مثلاً: بد، دب ، أبد، أدب
، بدأ، باد، داب، دبا. .
إلخ. ) مسقطاً المكرر منها، إلى أن تم له استخراج جميع
الألفاظ التي يمكن أن تتركب من الحروف الهجائية العربية " من حرفين إلى خمسة أحرف"
ثم أخذ يفحص هذه الألفاظ المجموعات فما وجده مستعملاً مثل "ضرب" أبقاه وسجله وما
وجده غير مستعمل مثل "جشص" التي لا وجود لها في لسان العرب أهمله.
وإذا كان
الخليل لم يتمكن من إنهاء مشروعه الضخم، فإن عمل اللغويين الذين جاؤوا بعده مباشرة
كان محصوراً، أو يكاد، في إتمام هذا المشروع.
تلك فكرة مجملة عن المبدأ المنهجي
الذي اعتمده الخليل واللغويون من بعده في جمع اللغة وتصنيف ألفاظها.
فإذا نظرنا
إلى هذا المبدأ من الزاوية المنطقية المحض وجب القول أننا هنا إزاء عمل علمي وصرامة
منطقية وعقلية رياضية راقية، وذلك ما نوهنا به من قبل وما سيبقى جديراً بالتنويه في
كل زمان ما دام العقل البشري يعمل وفق قواعد. .
غير أن المنطق شيئ والواقع الحي
شيء آخر، ويجب أن يكون المنطق في خدمة الواقع الحي لا العكس.
وعندما يتعلق الأمر
بواقع حي متطور فإنه من الضروري ترك "الحرية" لمنطق التطور، وهو غير المنطق
الرياضي، وإلا أدى فرض القوالب المنطقية الصورية على ذلك الواقع إلى قتل الحياة
فيه، فيكون مآله التحجر والتوقف عن النمو.
بالفعل كانت "المعجزة" العربية سيفاً
ذا حدين: فمن جهة جعلت من لغة كانت تقوم على مجرد السليقة والطبع لغة علمية مضبوطة
مقننة، وهذا ما أبرزناه من قبل، ومن جهة أخرى جعلت من تلك اللغة نفسها لغة "عاجزة"
عن مواكبة التطور وقبول ما لا بد منه من التغير والتجدد، وهذا ما سيكون علينا
توضيحه الآن.