صفحة من
كتاب
كتاب
إذا نظرنا إلى النتائج التي أسفر عنها المبدأ الذي
وضعه الخليل والطريقة التي اتبعها، وهما نفس المبدأ ونفس الطريقة اللذين سار عليهما
علماء اللغة من بعده، أو على الأقل صدروا عنهما في تصورهم للغة العربية، وجدنا
أنفسنا أمام طريقة ل"صنع " اللغة وتحجيمها في قوالب ثابتة صلبة ، لا أمام قواعد
لجمع شتات وتنظيم حياتها الداخلية مع الحفاظ لها على إمكانية التطور
والتجدد.
وإذا تذكرنا ما قلناه من
قبل بصدد دور اللغة في تشكيل تصور الإنسان للعالم، وبالتالي في بناء عقله وهيكلة
فكره، أدركنا أية آثار سلبية كان لابد أن تخلفها في العقل العربي طريقة الخليل
واللغويين من بعده.
لقد انطلق الخليل من الامكان الذهني فتعامل مع الحروف
الهجائية العربية تعاملاً رياضياً صرفاً ، فحصر أنواع الألفاظ الممكن تركيبها
منها.
وهذا المبدأ كان لابد أن يجعل اللغة من صنع الذهن بدل أن تكون نتيجة
التعامل معها كمعطى واقعي.
وفي هذه الحالة ستنقلب العملية من عملية جمع اللغة
إلى عملية التماس سند واقعي لفرض نظري.
إن تركيب الحروف الهجائية العربية بعضها
مع بعض لإنشاء جميع الكلمات الممكنة ثنائية وثلاثية ورباعية وخماسية يمكن أن ينظر
إليه على أنه وضع بالجملة للغة العربية.
وعلى الرغم من الجهود الجبارة التي
بذلها الخليل وزملاؤه اللغويون من أجل التمييز في هذه المجموعات اللغوية الافتراضية
بين المستعمل والمهمل فلقد كان من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، وضع خط فاصل
ونهائي بين ما نطقت به العرب وما لم تنطق به، خصوصاً في جودٍ ساد فيه الولع بالغريب
كما سنبين بعد.
لقد كان من الطبيعي ، والحالة هذه ، أن يتحكم "القياس" بدل
السماع" فالكلمات صحيحة لأنها ممكنة وليس لأنها واقعية، وهي ممكنة مادام هناك أصل
يمكن أن ترد إليه أو نظير تقاس عليه، وهي ليست واقعية لأن "الفرع" هنا في الغالب
فرض نظري وليس معطى من معطيات الاستقراء والتجربة الاجتماعية.
وسنرى بعد قليل
دور هذه الفروض النظرية في تضخيم اللغة وجعلها ذات فائض من الألفاظ بالنسبة للمعنى،
الشيء الذي سينعكس أثره، ولابد، على طريقة تعامل العقل العربي مع اللغة، لغته التي
تساهم مساهمة أساسية في صنعة. .
أما الآن فلننظر إلى الوجه الآخر من
المسألة.
الواقع أن طريقة الخليل لم تكن إلا مظهراً واحداً من مظاهر الصنعة
والاصطناع التي تعرضت لها اللغة العربية في عصر التدوين والتي جعلت منها قوالب"
جامدة" ونهائية ، لغة محضورة الكلمات مضبوطة التحولات، لغة التاريخية، لأنها لا
تتجدد بتجدد الأحوال ولا تتطور بتطور العصور.
هناك مظهر آخر ناتج عن نفس الطريقة
، أو جاء كرد فعل لها، فالأمر محتملان: نقصد ما رافق "السماع" من صنعة
واصطناع.
لقد انطلقت عملية جمع اللغة وتقعيدها من الخوف عليها من الانحلال
والذوبان بسبب تفشي اللحن في مجتمع أصبح العرب فيه أقلية ضئيلة.
وبما أن سبب
اللحن كان الاختلاط الواسع الذي عرفته الحواضر في العراق والشام خاصة، بين العرب
والموالي، فلقد كان طبيعياً أن تطلب اللغة "الصحيحة" من البادية وبكيفية خاصة من
القبائل التي بقيت منعزلة وبقي رجالها الأعراب محتفظين بفطرتهم وسليقتهم و"سلامة"
نطقهم.
يقول ابن جني في هذا الشأن: "إن علة ذلك ما عرض للغات الحاضرة وأهل المدر
من الاختلال وفساد والخلل، ولو علم أن أهل مدينة باقون على فصاحتهم لم يتعرض شيء من
الفساد للغتهم لوجد الأخذ منهم كما يؤخذ من أهل الوبر، وكذلك لو نشأ في أهل الوبر
ما شاع في لغة أهل المدر من اضطراب الألسنة وخبالها، وانتقاص عادة الفصاحة
وانتشارها لوجب رفض لغتها وترك تلقي ما يرد عنها".
لقد أتجه جامعو اللغة
ورواتها، إذن ، إلى البادية ، إلى الأعراب "الاقحاح" وأصبح هؤلاء والأعراب "الحفاة
العراة " مطلوبين بكل الحاح.
وعندما أصبحت رواية اللغة مع بداية القرن الثاني
للهجرة احترافاً وانقطع إليها رجال مقتدرون أمثال أبي عمر بن العلاء المتوفي سنة
154ه وحماد الرواية المتوفي سنة 155 ه والخليل بن أحمد المتوفي سنة 170 ه وغيرهم
، كان أهم شرط وضعوه فيمن يصح أخذ اللغة عنه أن يكون خشناً في جلدة فصيحاً في
لسانه: "لقد أعتبر اللغويون جفاء العربي وخشونته وبقاءه محروماً من الترف وليونة
الجلد اكتسب الأعراب صفتي البداوة والفصاحة بالشهرة أو بالاختبار أصبح من حقه
هو أن يتحكم في العلماء وآرائهم بالتصويب والتخطئة، ويصبح حينئذ قانوناً ينصاع له
العلماء وينفذون مشيئته.
وهكذا ينقلب الأعرابي بسر تلك البداوة المباركة
استناداً للعلماء يتحاكمون إليه في الخصومات والخلافات".
ليس هذا وحسب بل لقد
أدى التهافت على الأعراب والاعتماد عليهم كل الاعتماد في ضبط اللغة وتقعيدها أن
أصبح العلماء يعتبرونهم معصومين من الخطأ اللغوي، ليس بسبب إيمانهم بذلك ، بل من
أجل ألا ينسحب الخطأ إلى القواعد التي شيدوها انطلاقاً من نطقهم وكلامهم.
ومع
تزايد الإقبال على الأعرابي والتنافس عليه والاجتهاد في ارتضائه أخذ يكتسب وعياً
بأهميته وبقيمة نطقه وأصبح يشعر أنه يملك شيئاً قابلاً لأن يطلب له الثمن.
ذلك
ما حدث فعلاً، فالتاريخ يحدثنا أن بعض الأعراب قد احترفوا بيع بضاعتهم من الكلام
وأن بعضهم الآخر رحلوا إلى البصرة أو إلى الكوفة لإقامة فيها كرواة للغة،
ك"بائعين" للكلام.
وهناك من رحل إلى البادية، من أهل الحضر ، ليروى عنه هناك،
حتى إذا نال الشهرة نال ما أراد من المال.
وهكذا أصبح اللفظ العربي، خاصة منه
الغريب والموحش والقديم والنادر، بضاعة مربحة ووسيلة لكسب العيش بأيسر
طريقة.
والجدير بالملاحظة أن هذا الإقبال على الأعراب وعلى الغريب والقديم من
الألفاظ لم يكن من جانب اللغويين وحدهم ، بل لقد سلك النحاة نفس المسلك.
والحق
أنه يصعب الفصل بوضوح بين اللغوي والنحوي ، فاللغوي كان نحوياً والنحوي كان لغوياً
، وكل الفرق بينهما هو أن أحدهما كان يهتم أكثر باللغة كألفاظ ومعان في حين كان
الشغل الشاغل للآخر هو البحث عن شواهد للقواعد النحوية التي يستنبطها أو يضعها
وضعاً.
وفي ميدان النحو تركز الاهتمام، كما في ميدان اللغة، على
القديم.
فكلما كان الكلام منسوباً على فترة أوغل في القدم كان مقبولاً ومطلوباً
: لقد "اعتبروا كل ما هو قديم علامة على الجودة ، وأما الحديث المعاصر فمحكوم عليه
بالتزييف والرفض والإنكار" ، بل لقد ظلوا ينظرون إلى "التطور الذي أصاب اللغة
العربية يومئذ كما لو كان ضرباً من الخطأ والانحراف يجب طرحه وإهماله، ومن ثم
أوجبوا وقف الاستشهاد في مسائل النحو والصرف في منتصف القرن الثاني للهجرة".
وقد
يتساءل المرء أمام كل هذا قائلاًُ: إذا كان المقصود من جمع اللغة وتقعيدها هو حماية
القرآن من اللحن فلماذا لم يعتمد اللغويون القرآن نفسه أساساً وحيداً لعملهم، مع
أنه باعتراف الجميع أفصح وأبين؟ يعلل بعض الباحثين انصراف اللغويين القدامى عن
القرآن إلى كلام الأعراب بكون القرآن ورد على روايات سبع أو أحرف سبع هي عبارة عن
قراءات يختلف بضعها عن بعض، وأن هذا الاختلاف رغم ضالته ومحدوديته كان يطرح مشاكل
لغوية ونحوية لا يكن يسمح به لهم "والتحرز الديني".
إن التصرف في النص تأويل ،
وهذا ما كانوا يتجنبونه.
أما نحن فنريد أن نرى في المسألة ما هو أبعد من هذا،
ذلك لأنه إذا كان المنطلق هو الرغبة في حفظ القرآن من تسرب اللحن إليه فإن الأمر
كان يتطلب تحصينه من خارجه.
وإذا أضفنا إلى هذا أن الحاجة كانت تتزايد إلى فهم
كلماته وعبارته، وأن اعتبار هذه الحاجة كان من موجهات عمل اللغويين، أدركنا كيف أن
المطلوب كان، في واقع ا لأمر ، هو إيجاد لغة ما ورائية تكون أطاراً مرجعياً على
مستوى معاني الكلمات والتعابير المجازية.
ليس هناك من لغة تستطيع القيام بتلك
المهمة غير لغة العصر الجاهلي التي كانت لاتزال متداولة لدى القبائل المنعزلة،
تماماً مثلما كان يحتفظ بها الشعر الجاهلي نفسه.
ذلك هو المنطق الداخلي الذي كان
يحكم علاقة جامعي اللغة وواضعي النحو مع النص القرآن.
وهو منطق يزكيه ما يروى عن
ابن عباس من أنه قال:"إذا تعاجم شيء من القرآن فانظروا في الشعر ، فإن الشعر عربي"
.
وهناك رواية أخرى تنسب مثل هذا القول إلى النبي نفسه.
وضعه الخليل والطريقة التي اتبعها، وهما نفس المبدأ ونفس الطريقة اللذين سار عليهما
علماء اللغة من بعده، أو على الأقل صدروا عنهما في تصورهم للغة العربية، وجدنا
أنفسنا أمام طريقة ل"صنع " اللغة وتحجيمها في قوالب ثابتة صلبة ، لا أمام قواعد
لجمع شتات وتنظيم حياتها الداخلية مع الحفاظ لها على إمكانية التطور
والتجدد.
وإذا تذكرنا ما قلناه من
قبل بصدد دور اللغة في تشكيل تصور الإنسان للعالم، وبالتالي في بناء عقله وهيكلة
فكره، أدركنا أية آثار سلبية كان لابد أن تخلفها في العقل العربي طريقة الخليل
واللغويين من بعده.
لقد انطلق الخليل من الامكان الذهني فتعامل مع الحروف
الهجائية العربية تعاملاً رياضياً صرفاً ، فحصر أنواع الألفاظ الممكن تركيبها
منها.
وهذا المبدأ كان لابد أن يجعل اللغة من صنع الذهن بدل أن تكون نتيجة
التعامل معها كمعطى واقعي.
وفي هذه الحالة ستنقلب العملية من عملية جمع اللغة
إلى عملية التماس سند واقعي لفرض نظري.
إن تركيب الحروف الهجائية العربية بعضها
مع بعض لإنشاء جميع الكلمات الممكنة ثنائية وثلاثية ورباعية وخماسية يمكن أن ينظر
إليه على أنه وضع بالجملة للغة العربية.
وعلى الرغم من الجهود الجبارة التي
بذلها الخليل وزملاؤه اللغويون من أجل التمييز في هذه المجموعات اللغوية الافتراضية
بين المستعمل والمهمل فلقد كان من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، وضع خط فاصل
ونهائي بين ما نطقت به العرب وما لم تنطق به، خصوصاً في جودٍ ساد فيه الولع بالغريب
كما سنبين بعد.
لقد كان من الطبيعي ، والحالة هذه ، أن يتحكم "القياس" بدل
السماع" فالكلمات صحيحة لأنها ممكنة وليس لأنها واقعية، وهي ممكنة مادام هناك أصل
يمكن أن ترد إليه أو نظير تقاس عليه، وهي ليست واقعية لأن "الفرع" هنا في الغالب
فرض نظري وليس معطى من معطيات الاستقراء والتجربة الاجتماعية.
وسنرى بعد قليل
دور هذه الفروض النظرية في تضخيم اللغة وجعلها ذات فائض من الألفاظ بالنسبة للمعنى،
الشيء الذي سينعكس أثره، ولابد، على طريقة تعامل العقل العربي مع اللغة، لغته التي
تساهم مساهمة أساسية في صنعة. .
أما الآن فلننظر إلى الوجه الآخر من
المسألة.
الواقع أن طريقة الخليل لم تكن إلا مظهراً واحداً من مظاهر الصنعة
والاصطناع التي تعرضت لها اللغة العربية في عصر التدوين والتي جعلت منها قوالب"
جامدة" ونهائية ، لغة محضورة الكلمات مضبوطة التحولات، لغة التاريخية، لأنها لا
تتجدد بتجدد الأحوال ولا تتطور بتطور العصور.
هناك مظهر آخر ناتج عن نفس الطريقة
، أو جاء كرد فعل لها، فالأمر محتملان: نقصد ما رافق "السماع" من صنعة
واصطناع.
لقد انطلقت عملية جمع اللغة وتقعيدها من الخوف عليها من الانحلال
والذوبان بسبب تفشي اللحن في مجتمع أصبح العرب فيه أقلية ضئيلة.
وبما أن سبب
اللحن كان الاختلاط الواسع الذي عرفته الحواضر في العراق والشام خاصة، بين العرب
والموالي، فلقد كان طبيعياً أن تطلب اللغة "الصحيحة" من البادية وبكيفية خاصة من
القبائل التي بقيت منعزلة وبقي رجالها الأعراب محتفظين بفطرتهم وسليقتهم و"سلامة"
نطقهم.
يقول ابن جني في هذا الشأن: "إن علة ذلك ما عرض للغات الحاضرة وأهل المدر
من الاختلال وفساد والخلل، ولو علم أن أهل مدينة باقون على فصاحتهم لم يتعرض شيء من
الفساد للغتهم لوجد الأخذ منهم كما يؤخذ من أهل الوبر، وكذلك لو نشأ في أهل الوبر
ما شاع في لغة أهل المدر من اضطراب الألسنة وخبالها، وانتقاص عادة الفصاحة
وانتشارها لوجب رفض لغتها وترك تلقي ما يرد عنها".
لقد أتجه جامعو اللغة
ورواتها، إذن ، إلى البادية ، إلى الأعراب "الاقحاح" وأصبح هؤلاء والأعراب "الحفاة
العراة " مطلوبين بكل الحاح.
وعندما أصبحت رواية اللغة مع بداية القرن الثاني
للهجرة احترافاً وانقطع إليها رجال مقتدرون أمثال أبي عمر بن العلاء المتوفي سنة
154ه وحماد الرواية المتوفي سنة 155 ه والخليل بن أحمد المتوفي سنة 170 ه وغيرهم
، كان أهم شرط وضعوه فيمن يصح أخذ اللغة عنه أن يكون خشناً في جلدة فصيحاً في
لسانه: "لقد أعتبر اللغويون جفاء العربي وخشونته وبقاءه محروماً من الترف وليونة
الجلد اكتسب الأعراب صفتي البداوة والفصاحة بالشهرة أو بالاختبار أصبح من حقه
هو أن يتحكم في العلماء وآرائهم بالتصويب والتخطئة، ويصبح حينئذ قانوناً ينصاع له
العلماء وينفذون مشيئته.
وهكذا ينقلب الأعرابي بسر تلك البداوة المباركة
استناداً للعلماء يتحاكمون إليه في الخصومات والخلافات".
ليس هذا وحسب بل لقد
أدى التهافت على الأعراب والاعتماد عليهم كل الاعتماد في ضبط اللغة وتقعيدها أن
أصبح العلماء يعتبرونهم معصومين من الخطأ اللغوي، ليس بسبب إيمانهم بذلك ، بل من
أجل ألا ينسحب الخطأ إلى القواعد التي شيدوها انطلاقاً من نطقهم وكلامهم.
ومع
تزايد الإقبال على الأعرابي والتنافس عليه والاجتهاد في ارتضائه أخذ يكتسب وعياً
بأهميته وبقيمة نطقه وأصبح يشعر أنه يملك شيئاً قابلاً لأن يطلب له الثمن.
ذلك
ما حدث فعلاً، فالتاريخ يحدثنا أن بعض الأعراب قد احترفوا بيع بضاعتهم من الكلام
وأن بعضهم الآخر رحلوا إلى البصرة أو إلى الكوفة لإقامة فيها كرواة للغة،
ك"بائعين" للكلام.
وهناك من رحل إلى البادية، من أهل الحضر ، ليروى عنه هناك،
حتى إذا نال الشهرة نال ما أراد من المال.
وهكذا أصبح اللفظ العربي، خاصة منه
الغريب والموحش والقديم والنادر، بضاعة مربحة ووسيلة لكسب العيش بأيسر
طريقة.
والجدير بالملاحظة أن هذا الإقبال على الأعراب وعلى الغريب والقديم من
الألفاظ لم يكن من جانب اللغويين وحدهم ، بل لقد سلك النحاة نفس المسلك.
والحق
أنه يصعب الفصل بوضوح بين اللغوي والنحوي ، فاللغوي كان نحوياً والنحوي كان لغوياً
، وكل الفرق بينهما هو أن أحدهما كان يهتم أكثر باللغة كألفاظ ومعان في حين كان
الشغل الشاغل للآخر هو البحث عن شواهد للقواعد النحوية التي يستنبطها أو يضعها
وضعاً.
وفي ميدان النحو تركز الاهتمام، كما في ميدان اللغة، على
القديم.
فكلما كان الكلام منسوباً على فترة أوغل في القدم كان مقبولاً ومطلوباً
: لقد "اعتبروا كل ما هو قديم علامة على الجودة ، وأما الحديث المعاصر فمحكوم عليه
بالتزييف والرفض والإنكار" ، بل لقد ظلوا ينظرون إلى "التطور الذي أصاب اللغة
العربية يومئذ كما لو كان ضرباً من الخطأ والانحراف يجب طرحه وإهماله، ومن ثم
أوجبوا وقف الاستشهاد في مسائل النحو والصرف في منتصف القرن الثاني للهجرة".
وقد
يتساءل المرء أمام كل هذا قائلاًُ: إذا كان المقصود من جمع اللغة وتقعيدها هو حماية
القرآن من اللحن فلماذا لم يعتمد اللغويون القرآن نفسه أساساً وحيداً لعملهم، مع
أنه باعتراف الجميع أفصح وأبين؟ يعلل بعض الباحثين انصراف اللغويين القدامى عن
القرآن إلى كلام الأعراب بكون القرآن ورد على روايات سبع أو أحرف سبع هي عبارة عن
قراءات يختلف بضعها عن بعض، وأن هذا الاختلاف رغم ضالته ومحدوديته كان يطرح مشاكل
لغوية ونحوية لا يكن يسمح به لهم "والتحرز الديني".
إن التصرف في النص تأويل ،
وهذا ما كانوا يتجنبونه.
أما نحن فنريد أن نرى في المسألة ما هو أبعد من هذا،
ذلك لأنه إذا كان المنطلق هو الرغبة في حفظ القرآن من تسرب اللحن إليه فإن الأمر
كان يتطلب تحصينه من خارجه.
وإذا أضفنا إلى هذا أن الحاجة كانت تتزايد إلى فهم
كلماته وعبارته، وأن اعتبار هذه الحاجة كان من موجهات عمل اللغويين، أدركنا كيف أن
المطلوب كان، في واقع ا لأمر ، هو إيجاد لغة ما ورائية تكون أطاراً مرجعياً على
مستوى معاني الكلمات والتعابير المجازية.
ليس هناك من لغة تستطيع القيام بتلك
المهمة غير لغة العصر الجاهلي التي كانت لاتزال متداولة لدى القبائل المنعزلة،
تماماً مثلما كان يحتفظ بها الشعر الجاهلي نفسه.
ذلك هو المنطق الداخلي الذي كان
يحكم علاقة جامعي اللغة وواضعي النحو مع النص القرآن.
وهو منطق يزكيه ما يروى عن
ابن عباس من أنه قال:"إذا تعاجم شيء من القرآن فانظروا في الشعر ، فإن الشعر عربي"
.
وهناك رواية أخرى تنسب مثل هذا القول إلى النبي نفسه.