كتاب
العلمية التي أملت هذا المنطق وفرضته يجب أن نتذكر أن اللغة العربية آنذاك كانت
تكتب بدون نقط، وكانت وما تزال تكتب بدون حركات.
فكلمة "نبغ" كانت تكتب هكذا
"نع" وهي كلمة "كتابية" يمكن أن تنطق إما "نبغ" وإما "نبع" وإما "تبع" وإما "بتع"
وإما "بيع". . إلخ، دع عنك كيفية النطق أي الحركات.
وما نريد تأكيده من خلال هذا المثال البسيط هو أن اللغة العربية
لم يكن من الممكن جمعها إلا من الكلام المنطوق، لا المكتوب، والقرآن كان مكتوباً
ومقروءاً معاً فلتبرير نوع ما من القراءة له كان لابد من الاعتماد على لغة
مسموعة.
ولغة الأعراب هنا هي اللغة المطلوبة التي وحدها تفي بالغرض، ولعل مما له
دلالة في هذا الصدد أن كلمة "تصحيف" التي تعني اللحن والخطأ ، أصلها، كما يقول
المقري، "أن يأخذ الرجل اللفظ من قراءته في صحيفة، ولم يكن سمعه من الرجال فيغيره
عن الصواب".
ومن هنا كان اللغويون والنحاة يطلبون اللغة من الأعراب البدو الذين
لا يعرفون الكتابة وقد بلغ الأمر إلى درجة أن بعض هؤلاء الأعراب كانوا يتظاهرون
بعدم معرفة الكتابة في حال معرفتهم بها حتى يوثق بهم ويروى عنهم.
وهناك
حكايات كثيرة تحكي كيف "ضبط" بعض الأعراب وهم يقرأون أو يكتبون، وكيف أنهم كانوا
يناشدون من عرف عنهم ذلك أن يسترهم ويكتم ذلك عنهم.
لم يكن هدفنا رسم هذه
الصورة، عن جمع اللغة وتقعيدها، لذاتها، أن كتب الأدب واللغة والتاريخ زاخرة
بتفاصيل أوفى، وهناك من الكتب الحديثة ما هو من الجدية ومالاستقصاء بالقدر الذي يفي
بحاجة الباحث غير المختص، وإنما كان هدفنا عرض نماذج من الواقع تسمع باستخلاص
النتائج التي تهمموضوعنا.
خصيتان أساسيتان في اللغة العربية أبرزهما العرض
السابق : لا تاريخيتها وطبيعتها الحسية.
فمن جهة، إذا كانت القوالب الصورية التي
صب فيها الخليل وزملاؤه اللغة العربية قد منحتها نوعاً من الدينامية الداخلية "=
الاشتقاق" وبالتالي جعلتها أكثر مطاوعة، فإنها قد عملت أيضاً على "تحصينها" من كل
تغير وتطوير يقترحهما عليها التاريخ، ولذلك بقيت اللغة العربية ومازالت منذ زمن
الخليل على الأقل لم تتغير لا في نحوها ولا في صرفها ولا في معاني ألفاظها وكلماتها
ولا في طريقة توالدها الذاتي، ذلك ما نقصده عندما نقول عنها أنها لغة لا تاريخية،
إنها إذ تعلو على التاريخ لا تستجيب لمتطلبات التطور.
ومن جهة أخرى، فإن جمع
اللغة من الأعراب البدو ومنهم وحدهم لا بد أن يترك فيها "آثارهم" ، أعني بعض
خصائصهم الراجعة إلى ظروف معاشهم وفي مقدمتها الطبيعية الحسية لتفكيرهم
ورؤاهم.
إن جمع اللغة من الأعراب، دون غيرهم، معناه جعل عالم هذه اللغة محدوداً
بحدود عالم أولئك الأعراب.
ولما كان هؤلاء يحيون حياة "الفطرة" و"الطبع" أي
يحيون حياة حسية ابتدائية، فلقد كان لابد أن ينعكس ذلك على تفكيرهم وبالتالي على
اللغة التي جمعت منهم وقيست بمقاييسهم، ومن هنا ما لاحظ أحد الكتاب المعاصرين من
"أن الكلمات العربية ذات أصول في الطبيعة وأن مبدأ الصحة فيها قد تعين من قبل
الفطرة لا من قبل العرف والعادة" وبالتالي فإن "الكلمة التي لا يمكن إرجاعها إلى
صورة صوتية مقتبسة من الطبيعة، وفي حدود الصناعة العربية، لهي كلمة دخيلة على
العربية".
وعلى الرغم من أننا نقدر ونحترم الدوافع والأهداف التي كانت وراء
ملاحظات هذا الكتاب حول خصائص اللغة العربية و"فلسفتها" ، فإننا نعتقد أن الموضوعية
والروح العلمية تستلزمان تسمية الأشياء بأسمائها والتصريح بدلالتها الحقيقة
والموضوعية.
إن لتاريخية اللغة العربية مثلها مثل طبيعتها الحسية ليست فضيلة
فيها ولا مكمنا لفلسفة موهومة خاصة بها وبأهلها، يجب استخراجها وإبراز
أصالتها. .
كلا.
إن لاتاريخية اللغة العربية وطبيعتها الحسية معطى واقعي
تاريخي يجب أن ننظر إيه بعين النقد وليس بعين الرضى والمدح.
إن العالم الذي نشأت
فيه اللغة العربية ، أو على الأقل جمعت منه، عالم حسي لاتاريخي: عالم البدو من
العرب الذين كانوا يعيشون زمناً ممتداً كامتداد الصحراء ، زمن التكرار والرتابة،
ومكاناً بل فضاء "طبيعياً وحضارياً وعقلياً" فارغاً هادئاً ، كل شيء فيه صورة حسية،
بصرية أو سمعية.
هذا العالم هو كل ما تنقله اللغة العربية إلى أصحابها، اليوم
وقبل اليوم ، وسيظل هو ما دامت هذه اللغة خاضعة لمقاييس عصر التدوين وقيوده.
لقد
أشرنا قبل قليل إلى انصراف جامعي اللغة وواضعي النحو عن اعتماد النص القرآن كمرجع
أساسي ولجوئهم إلى الأعراب "المتوحشين" الموغلين في القفر.
ومهما يكن الدافع
الذي جعلهم يسلكون هذا المسلك فأن النتيجة التي حصلت هي أن اللغة العربية التي
جمعوها من الأعراق جاءت فقيرة جداً بالمقارنة مع النص القرآن، ذلك أنه بينما تبنى
النص القرآن كلمات غير عربية فعربها، اعتبرت اللغة المعجمية الفصحى هذه الكلمات من
الدخيل فتعاملت معها بوصفها كذلك.
إن اعتماد جامعي اللغة على "خشونة البداوة"
كمقياس جعل العربية تفقد كثيراً من الكلمات والمفاهيم الجديدة الواردة في القرآن
والحديث والتي كانت رائجة في مجتمع مكة والمدينة، خاصة الكلمات الحضارية، فكانت
اللغة العربية، لغة المعاجم والنحو، أقل اتساعاً وأقل مرونة من لغة ا لقرآن
وبالتالي أقل تحضراً منه.
وهذا ما جعل القرآن يبقى دائماً أوسع وأخصب، وجعل
اللغة العربية التي رسمها عصر التدوين تبقى عاجزة عن استيعابه كامل
الاستيعاب.
ولقد كان طبيعياً أن ينعكس هذا على فهم القرآن من طرف العرب أنفسهم،
فكثيراً من الكلمات الواردة في هذا "الكتاب المبين" لا نجد لها معاني مضبوطة في هذه
اللغة التي جمعت من الأعراب فظلت وما زالت محل خلاف متواصل، وسيبقى الأمر كذلك، إذ
كيف يمكن الفصل فيه واللغة الماورائية عاجزة عن استيفاء الحديث عنه؟.
وما أصاب
اللغة العربية من فقر حضاري بسبب انصراف اللغويين والنحاة عن النص القرآن عند جمعهم
اللغة ووضع قواعدها سيتضاعف مرات ومرات بسبب انصرافهم كذلك عن الأخذ من المراكز
الحضارية والقبائل المتحضرة نوعاً من التحضر كقبيلة قريش ذاتها.
وإن المرء لا
يمكن إلا أن تأخذ منه الدهشة كل مأخذ حينما يلاحظ أن اللغة العربية لا تنقل إلينا
أسماء الأدوات وأنواع العلاقات التي عرفها المجتمع المكي والمديني على عهد الرسول
والخلفاء الأربع وعرفها مجتمع دمشق وبغداد والقاهرة من بعد، وهي مجتمعات حضرية
راقية كانت تستعمل بدون شكل مالا يحصى من الآلات والأدوات وتتعامل من خلال ما
لايحصى من العلاقات.
إن من يقيس تلك المجتمعات العربية الإسلامية المتحضرة
بمقياس اللغة العربية التي حفظتها لنا المعاجم سيجد نفسه مضطراً للحكم عليها بأنها
كانت مجتمعات تعيش صامتة جامدة في حين أنها كانت من أكثر المجتمعات كلاماً
وحركة.
فعلاً كان اللحن قد تفشى، وكما يقول ابن الأثير: "فلما انقضى زمان
التابعين على إحسانهم "منتصف القرن الثاني" إلا واللسان العربي قد استحال أعجمياً
أو كاد، فلا ترى المستقبل به والمحافظ عليه إلا الآحاد" ، ولكن الهروب من اللحن إلى
لغة "الأعراب الإقحام" قد أدى إلى ترك الحرية ل"اللحن " يصنع لغة التعامل ، لغة
الحياة ، اللغة اليومية ، في حين أدى "تحسين" العربية "الفصحى" إلى تثبيتها في
مرحلة حضارية بدائية فقيرة، مرحة "ما قبل تاريخ" العرب.
هذا الفقر الحضاري في
اللغة العربية يقابلها فيها غنى بدوي، يتمثل خاصة في كثرة المترادفات، كثرة راجعة
في جزء منها إلى الاشتقاق الصناعي على طريقة الخليل ، وفي جزء آخر إلى "السماع" من
قبائل مختلفة.
فمن جهة كان لابد أن يؤدي الاشتقاق الصناعي إلى التضخم في الكلمات
التي هي من أصل واحد والتي تبقى كلها في دائرة "المستعمل" ما دامت واحدة منها
مستعملة ، إذ تؤخذ حينئذ كأصل يشتق منه، على الرغم من أنه قد يكون من يشتق منها من
الكلمات غير مسموع، وغير مستعمل.
وهكذا تصبح لغة المعجم، لغة "الأصل والمشتق" ،
أوسع كثيراً من لغة الواقع، ولكن فقط في دائرة "خشونة البداوة.
ومن جهة أخرى كان
لابد أن يؤدي أخذ اللغة من قبائل مختلفة وليس من قبيلة واحدة كقبيلة قريش مثلاً
إلى ظاهرة كثرة المترادفات التي تشكو منها لغة الضاد، والتي ترجع في جزء كبير منها
لا إلى وجود اختلافات دقيقة في المعنى كما يقول بذلك بعض "المختصين" ، بل إلى
اختلاف المصادر التي أخذت منها الكلمة: الشيء الواحد قد تسميه قبيلة باسم وتسميه
قبيلة أخرى باسم آخر وثالثة باسم ثالث، وبما أن اللغة أخذت من قبائل متعددة فلا بد
أن تتعدد ا لأسماء والمسمى واحد بعينه.
الاشتقاق الصناعي الذي يكرس الانطلاق من
اللفظ إلى المعنى "إذ من ضرب نشتق بضر ونبحث لها عن معنى. . . إلخ" ، والرواية من
الأعراب "مع ما رافقها من الوضع والاتجار في الكلام " ، والأخذ من قبائل متعددة ما
يجعل للشيء الواحد أسماء مختلفة. .
كل ذلك جعل اللغة العربية تتوفر فعلاً على
"فائض في الألفاظ بالنسبة للمعنى" ، ولكن فقط بالنسبة لعالم دون عالم ، عالم البدو
دون عالم الحضر.