;

نقد العقل العربي :تكوين العقل العربي ..الحلقة «23» 2377

2010-08-15 05:33:55

صفحة من
كتاب


والنتيجة هي أن اللغة العربية
الفصحى، لغة المعاجم والآداب والشعر ، وبكلمة واحدة لغة الثقافة، ظلت وماتزال تنقل
إلى أهلها عالماً يزداد بعداً عن عالمهم، عالماً بدوياً يعيشونه في أذهانهم، بل في
خيالهم ووجدانهم، عالم يتناقض مع العالم الحضاري التكنولوجي الذي يعيشونه والذي
يزداد غنى وتعقيداً.

فهل نبالغ
إذا جنحنا إلى القول بأن الأعرابي هو فعلاً صانع "العالم" العربي، العالم الذي
يعيشه العرب على مستوى الكلمة والعبارة والتصور والخيال ، بل على مستوى العقل
والقيم والوجدان وأن هذا العالم ناقص فقير ضحل جاف، حسي طبيعي ، لاتاريخي، يعكس
"ماقبل تاريخ" العرب: العصر الجاهلي، عصر ما قبل "الفتح" وتأسيس الدولة.
5
إذا كان السماع من الأعرابي قد رسم حدود العالم إلى تنقله اللغة العربية الفصحى
لأهلها، فإن صناعة اللغويين والنحاة قد قولبت بدورها العقل الذي يمارس فعاليته في
هذه اللغة وبواسطتها، العقل العربي الذي تغرسه الثقافة العربية في المنتمين إليها
وإليها وحدها.
ذلك أن عمل النحاة لم يكن مقتصراً على استنباط قواعد اللسان
العربي من كلام العرب، بل كان في الواقع تقنيناً لهذا الكلام وتحجيماً له بواسطة
قوالب اعتبروها مطلقة ونهائية، ولكي تكون كذلك كان لابد أن تكون منطقية أي تكرس في
اللغة صيغاً منطقية تتحكم في ديناميتها الداخلية وبالتالي تقتل إمكانية التطور
فيها.
لقد أشرنا قبل قليل إلى أن طريقة الخليل، وطريقة اللغويين بكيفية عامة
تعتمد الاشتقاق، وقلنا أن هذا الاشتقاق يكرس النظرة التي تنطلق من اللفظ إلى
المعنى.
وعلينا أن نضيف الآن أن الألفاظ التي تنطلق منها عملية الاشتقاق تؤخذ في
صيغة الفعل أو ما في معناه " = المصدر وهو حدث، أي فعل، بدون زمان" الشيء الذي يكرس
الانطلاق كذلك من الفعل إلى المشتقات.
والأسماء المشتقة هذه لا تخضع في عملية
الإشتقاق للسماع، بل لقد تم وضع أوزان لها هي في الواقع قوالب منطقية، هي بالنسبة
للنحو والنحاة بمثابة المقولات بالنسبة للمنطق والمناطقة.
فما الذي يؤسس هذه
القوالب.
يقول باحث عربي معاصر: "إن قوالب الألفاظ وصيغ الكلمات في العربية
أوزان موسيقية ، أي أن كل قالب من هذه القوالب وكل بناء من هذه الأبنية نغمة
موسيقية ثابتة" وبعبارة أخرى: "فأشكال الألفاظ في العربية هي من جهة أبنية وقوالب
وهيئات ومن جهة أخرى أوزان موسيقية تدركها الأذن بسهولة ويسر فيدرك السامع جزءاً من
المعنى بمجرد إدراكه وزن الكلمة.
واتفاق الألفاظ في الوزن دليل في غالب الأحوال
على الاتفاق في قالب المعنى أو نوعه: كالآلية والمكانية أو التفضيل أو المفعولية" ،
ومن هنا كانت اللغة العربية ذات خاصة موسيقية: ف"الكلام العربي نثراً كان أو شعراً
هو مجموعة من الأوزان ولا يخرج عن أن يكون ترتيباًُ معيناً لنماذج موسيقية"
والمقابلة "بين نغمة الكلام وموضوعه" قائمة واضحة في اللغة العربية.
أما أن تكون
قوالب اللغة العربية وصيغ كلماتها ذات أوزان موسيقية فهذا ما يتجلى بكامل الوضوح
لكل من يقوم بفحص هذه القوالب والأوزان.
وأما أن تكون هذه الخاصية، مثلها مثل
الخاصيات التي نوه بها الباحث العربي الذي أشرنا إليه آنفاًُ، من فضائل اللغة
العربية، فهذا مالا يهم الدراسة الموضوعية للغة.
وإذا كان لابد من إبداء الرأي ،
ونحن قد اتجهنا بدراستنا اتجاهاً نقدياً، فإننا نرى أن الطابع الموسيقي للكلمة
العربية يكمل طابعها الحسي، هذا الطابع الذي عبر عنه الباحث العربي المذكور آنفاًُ
ب"ثبات العلاقة بين المعنى والصوت" في اللغة العربية.
ويكفي الباحث أن يلاحظ
كيف أن الأسماء المشتقة ، وهي مقولات النحاة، إنما تتمايز فيما بينها
بالإصاته.
وهكذا ف"فاعل" "الألف" للفعل كقاتل، و"مفعول" "الواو" للانفعال
ك"مجروح" و"فعيل" "الياء" للفعل ككريم أو للانفعال ك"قتيل"، و"فعال" "الشد
والألف" للفعل مع الكثرة ك"سباق" ، و"أفعل" "الهمزة للتفصيل
كأحسن. .
إلخ.
وهكذا فالصورة الصوتية هي التي تعطي للمشتقات دلالتها المنطقية،
وبعبارة أخرى "إن للأبنية والقوالب "العربية وظيفة فكرية منطقية.
فقد أتخذ العرب
في لغتهم للمعاني العامة أوا لمقولات المنطقية قوالب أو أبنية خاصة فجعلوا للفعالية
والمفعولية والمكان والزمان والسببية والحرفة والأصوات والمشاركة والآلة والتفضيل
والحدث ولمعانٍ أخرى كثيرة صيغاً خاصة وقوالب بحيث إذا بنيت أي مادة من مواد
الألفاظ على تلك الهيئة وصيغت على ذلك القالب أدت ذلك المعنى متصلاً بتلك المادة"
وهذه الأبنية في العربية تعلم تصنيف ا لمعاني وربط المتشابه منها برباط واحد،
ويتعلم أبناء العربية المنطق والتفكير المنطفي مع لغتهم بطريقة ضمنية
فطرية.
ونحن وإن كنا نؤكد هذه الملاحظات فإننا مع ذلك لا نرى رأي صاحبها حينما
يقول: "فقد اتخذ العرب في لغتهم للمعاني العامة أو المقاولات المنطقية قوالب وأبنية
خاصة. . "، ذلك لأن العرب تكلموا على "السليقة" كما يقال، وبالتالي فهم لم "يتخذوا"
للمعاني العامة" قوالب خاصة" وإنما الذي فعل ذلك، أو على الأقل كرسه وجعل منه قاعدة
كلية أن منطقاً للغة، هم النحاة. .
آية ذلك أنك تجد في كلام العرب ما يخرق هذه
القواعد المنطقية إذ تأتي صيغة "فاعل" بمعنى "مفعول" و"فعيل" بمعنى
"فاعل". . . إلخ.
ولعل مما يؤكد الدور الكبير الذي قام به النحاة في قولبه اللغة
العربية في قوالب منطقية فرضوها عليها فرضاً كثرة الشواذ، علماًُ بأن "الشاذ" يقل
مع مرور الزمن إذ يهمل وينسى.
أما عن الجانب الصناعي في الخطاب النحوي فيكفي في
إبرازه التذكير بقوله الأعرابي الذي سمع حديث النحاة فقال مخاطباً لجماعة منهم:
"إنكم تتكلمون في كلامنا بكلام ليس من كلامنا"، الشيء الذي يعني أن لغة النحاة
كانت، بالنسبة للأعرابي، عبارة عن "إحداث لغة في لغة مقررة بين أهلها" حسب تعبير
أبي سعيد السيرافي النحوي الذي قال قولته هذه في لغة المناطقة.
بالفعل كان
النحاة العرب ينظرون إلى منطق أرسطو كمنافس دخيل جاء يضايق "منطقهم" في عقر داره،
وهذا ما يعكسه بوضوح موقف أبي سعيد السيارفي النحوي في المناظرة الشهيرة التي جرت
بينه وبين أبي بشر متى بن يونس المنطقي في بغداد سنة 326ه بمجلس الوزير الفضيل بن
جعفر ابن الفراة.
إن المنطق في نظر السيرافي: وضعه رجال من يونان على لغة أهلها
واصطلاحهم عليها وما يتعارفونه بها من رسومها وصفاتها"، ومن ثم فهو لا يلزم سوى
اليونانيين.
ولذلك يخاطب متى قائلاً له:"إذن لست تدعونا إلى علم المنطق، إنما
تدعونا إلى تعلم اللغة اليونانية" لأن المنطق، منطق أرسطو هو نحو اللغة اليونانية
مثلما أن النحو العربي هو منطق اللغة العربية.
وبعبارة أخرى: "النحو منطق ولكنه
مسلوخ من العربية والمنطق نحو ولكنه مفهوم باللغة" ومن هنا كان استعمال المنطق
الأرسطي في اللغة العربية، وبعبارة أخرى تطبيق عليها بمثابة" "إحداث لغة في لغة
مقررة بين أهلها". ويجب أن نلاحظ هنا أن اللغة المقررة بين أهلها التي يشير إليها
السرافي ليست اللغة العربية كما تقررت بكفيفة طبيعية بين أهلها العرب، بل اللغة
العربية النحوية كما قررها بينهم النحاة العرب والتي كانت هي نفسها بمثابة لغة
أحدثت في لغة مقررة بين أهلها العرب والأعراب.
لقد صب النحاة واللغويون كلام
العرب في قوالب منطقية تعكس صوراً حسية، صوتية في الغالب، وإذا كانت هذه القوالب قد
وجدت فعلاً في لغة العرب من بين قوالب أخرى، فإن تعميم النحاة لها وفرضهم لها
كقواعد وقوانين قد أبقى على اللغة العربية كلغة مصطنعة بصورة مضاعفة" وضع الأعراب
والرواة من جهة وصناعة اللغويين والنحاة من جهة ثانية"، لغة تنقل معها عالم
الأعرابي ي، البدوي الفقير، في قوالب جامدة ذات نغمة موسيقية.
فليس غريباً إذن
إذا لاحظ المرء أن النغمة الموسيقية في اللغة العربية تعوض، أو تغطي فقر المعنى،
وتجعل ا لكلام الذي يجر معه فائضاً من الألفاظ ذا معنى حتى ولو لم يكن له
معنى.
إن الأذن هنا تنوب عن العقل في الرفض والقبول، ومعروف في اللغة العربية أن
الأذن هي التي "تستسيغ" وليس العقل.

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد