كتاب
لمعاني مجتمعة الأصول متشعبة الفروع، فأقل ما في تلك المعاني المجتمعة المتشعبة:
أنها بيان لمن خوطب بها ممن نزل القرآن بلسانه، متقاربة الاستواء عنده، وإن كان
بعضها أشد تأكيد من بعض، ومختلفة عند من يجهل لسان العرب" (ص21).
المقصود ب"البيان" إذن هو: الخطاب القرآن الذي
نزل بلغة العرب ووفق أساليبها في التعبير والإفصاح، والهدف: تقنينه، أي تحديد علاقة
المبنى بالمعنى فيه انطلاقاً من أن البيان أصول وفروع، وأن العلاقة بين الأصول
والفروع تضبطها المعرفة باللغة العربية، وأن التباس هذه العلاقة وتشعبها إنما يحصل
"عند من يجهل لسان العرب"، أما مجال الاهتمام فمحصور في دائرة الشريعة، دون
العقيدة، وإن كانت التحديدات المستخرجة من الخطاب القرآن نفسه ينسحب أثرها على
المجالين معاً.
بعد هذا ينطلق الشافعي في تعداد وتحديد وجوه البيان في الخطاب
القرآن فيحصرها في خمسة: هناك أولاً ما أبانه الله لخلقه نصاً بحث لا يحتاج إلى
تأويل أو توضيح لأنه واضح بذاته، وهناك ثانياً ما أبانه الله لخلقه ولكن يحتاج إلى
نوع من التكملة أو التوضيح وقد تولت السنة النبوية القيام بذلك، وهناك ثالثاً ما
أحكم الله فرضه في كتابه وبين كيف هو على لسان نبيه، وهناك رابعاً ما سكت عنه
القرآن ولكن أبانه النبي فصار في قوة الوجوة السابقة لأن الله فرض في كتابة طاعة
رسوله، وهناك خامساً وأخيراً ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه، وسبيلهم إلى
ذلك المعرفة باللغة العربية وأساليبها في التعبير وبناء الرأي على القياس: قياس ما
لم يرد فيه نص ولا خير على "مثال سابق" يضبطه نص أو خبر أو إجماع، ومن هنا ذلك
القانون العام المقنن لرأي المحدد لمجال حركته، يقول الشافعي: "ليس لأحد أبداً أن
يقول في شيء حل ولا حرم إلا من وجهة العلم، وجهة العلم: الخبر في الكتاب أو السنة،
أو الإجماع، أو القياس" (ص 39).
هكذا حدد الشافعي أصول الفقه أو التشريع في
أربعة جمع فيها بين أصول أهل الحديث وأصول الرأي، على أساس الفصل في مسألتين
منهجيتين: حدود الرأي وشروطه "القياس" من جهة، وعلاقة اللفظ بالمعنى في البيان
القرآني من جهة ثانية.
أما الرأي فيجب أن يكون قياساً لا غير: "والقياس ما طلب
بالدلائل على موافقة الخبر المتقدم من الكتاب أو السنة" والموافقه موافقة الفرع
للأصل تكون أما باشتراكهما في معنى واحد وأما بوجود شبه بينهما "ص 40"، وفي
جميع الأحوال: لا يقيس إلا من له الآلة التي بها القياس وهي العلم بأحكام كتاب
الله، فرضه وأدبه وناسخه ومنسوخة وعامه وخاصة وإرشاده. . ولا يكون لأحد أن يقيس حتى
يكون عالماً بما مضى قبله من السنن وأقاويل السلف وإجماع الناس واختلافهم ولسان
العرب" (ص 509 5010)، أما الاستحسان الذي كان يعمل به أصحاب الرأي، بسبب الحاجة
أو الضرورة، فإنه لا يجوز، لأنه " لو جاز تعطيل القياس جاز لأهل العقول من غير أهل
العلم (=أهل الحديث. . . إلخ) أن يقولوا فيما ليس فيه خبر بما يحضرهم من الاستحسان،
وأن القول بغير خبر ولا قياس لغير جائز" (ص 505)، وأيضاً: "ولا يقول أحد بما
استحسن، فإن القول بما استحسن شيء يحدثه لا على مثال سابق" (ص 25)، ولما كان لا بد
من "مثال سابق" ثبت بالخبر فإنه لا يجوز أيضاً العمل ب"المصالح المرسلة" أو
"الاستصلاح" التي كان يعمل بها الإمام مالك زعيم مدرسة أهل الحديث. .
وهكذا
يكون الشافعي قد خطط لإرجاع كل شيء إلى الكتاب والسنة بواسطة القياس.
وأما
علاقة اللفظ بالمعنى في البيان العربي فيحددها الشافعي كما يلي: يقول: "فإنما خاطب
الله بكتابه العرب بلسانها على ما تعرف من معانيها، وكان مما تعرف من معانيها:
اتساع لسانها، وإن فطرته (= لسانها) أن يخاطب الشيء منه عاماً ظاهراً يراد به العام
الظاهر، ويستغني بأول هذا عن آخره، وعاماً ظاهراً يراد به العام ويدخله الخاص
فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه ، وعاماً ظاهراً يراد به الخاص، وظاهراً يعرف
في سياقه أنه يراد به غير ظاهره، فكل هذا موجود علمه في أول الكلام أو وسطه أو
آخره، وتبتدئ (= العرب الشيء من كلامها يبين أول لفظها فيه عن آخره، ويبين آخر
لفظها منه عن أوله، وتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون الايضاح باللفظ كما تعرف
الأشارة، ثم يكون هذا عندها من أعلى كلامها لانفراد أهل علمها به دون أهل جهالتها،
وتسمى الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة، وتسمى بالاسم الواحد المعاني الكثيرة" (ص 51
52 ).
وهكذا فالاجتهاد هو أساس الاجتهاد في فهم النص الديني داخل مجاله
التداولي.
فالحلول يجب البحث عنها داخل النص وبواسطته، والقياس ليس هو الرأي
باطلاق، بل هو "ما طلب بالدلائل على موافقة الخبر المتقدم من الكتاب أو السنة"،
وإذن فلكي يكون هناك قياس يجب أن يكون هناك خبر " أي نص" من الكتاب أو السنة يؤخذ
كأصل ودليل، ويجب أن تكون هناك موافقة، بالمعنى أو الشبه، بين الفراع أي الجديد
الذي يراد إصدار الحكم فيه، وبين الأصل، فالاجتهاد والقياس هما عبارة عن آليات
فكرية تعمل على ربط طرف بطرف وليس على بناء عالم فكري انطلاقاً من مبادئ، أما
المجال الحيوي لهذه الآليات الذهنية فهو النص.
ومن هنا كان التفكير ينحصر مضمونه
أو يكاد في "استثمار" النص، وبعبارة الأصوليين: "استثمار الأحكام من
الألفاظ".
ومن هنا أيضاً كان البحث الأصولي الفقهي ينطلق من مقدمات لغوية تبحث
في الألفاظ وأنواعها والدلالات وضروبها، وتكاد هذه الأبحاث تعتمد النص القرآني وحده
كميدان للبحث، للاستقراء والاستنباط.
يكاد يكون ما ذكرنا قبل هو كل ما أتى به
الشافعي من قواعد، فيما عدا أمثله كثيرة ومتنوعة من القرآن يوضح بها هذه القواعد
بصورة لا تترك مجالاً لغموض أو التباس خصوصاً إذا كان المرء قد مارس القرآن حفظاً
وفهماً، غير أن أهمية قواعد الشافعي ليست في عددها ألا حتى في وضوحها أو غموضها، بل
إن أهميتها الحقيقية كامنة في التوجيه الايبيستيمولوجي الذي كرسته والذي تحكم في
العقل العربي لمدى قرون طويلة وما زالت آثاره العميقة قائمة إلى اليوم، لقد وجه
الشافعي العقل العربي أفقياً إلى ربط الجزء بالجزء، الفرع بالأصل (=القياس)
وعمودياً إلى ربط اللفظ الواحد بأنواع من المعاني، والمعنى الواحد بأنواع من
الألفاظ داخل الدارسات الفقهية، تماماً كما هو الشأن في الدراسات اللغوية
والكلامية، هكذا وجد العقل العربي ما يشبع فضوله في التحرك بين هذين المحورين، فكان
وما يزال عقلاً فقهياً، أي عقلاً تكاد تقتصر عبقريته في البحث لكل فرع عن أصل
وبالتالي لكل جديد عن قديم يقاس عليه، وذلك بالاعتماد أساساً على النصوص، حتى غدا
النص هو السلطة المرجعية الأساسية للعقل العربي وفاعلياته، وواضح أن عقلاً في مثل
هذه الحال لا يمكن أن ينتج إلا من خلال إنتاج آخر.
وهل نحتاج إلى تأكيد هذه
الظاهرة بأمثلة من "القديم" و"الحديث" في الفكر العربي؟ لنتجنب مسابقة خطأ بحثنا
ولنقصر على التأكيد من جديد على تلك الفكرة التي انطلقنا منها في هذه الفقرة والتي
قلنا فيها "إنه إذا كانت مهمة الفقه هي التشريع للمجتمع، فإن مهمة "أصول الفقه" هي
التشريع للعقل، وبغض النظر عما إذا كان الفقه الإسلامي قد اشتغل بالتشريع للواقع
الاجتماعي، العملي المعاش، أو أنه انساق مع فروض نظرية بعيدة الوقوع تاركاً الواقع
الاجتماعي يقنن نفسه بواسطة العرف والعادة، فإن الشيء الذي لا يقبل المناقشة هو أن
الشافعي كان بالفعل المشرع الأكبر للعقل العربي، لقد كان "الرأي" قبله ومع أبي
حنيفة خاصة حراً طليقاً فقيده الشافعي، كما رأينا، بقيود ضيفت الشقة إلى أبعد حد
بين أنصاره وأنصار الأثر، ما كان يتمتع به "الرأي" من حرية مع أبي حنيفة نعرض
لمثالين أو ثلاثة من الأمثلة الكثيرة المتنوعة التي ترى عنه مشخصة اعتماده الرأي
لا بل العقل بدون حدود ولا قيود.
هناك مسائل كثيرة ملفتة للإنتباه في الثقافة
العربية الإسلامية ومسارها، وبعبارة أخرى هناك ثغرات كثيرة في فهمنا لواقع هذه
الثقافة وتصورنا لنموها وتطورها وعلاقة فروعها بعضها مع بعض، من هذه المسائل أو
الثغرات المفارقة التي نصوغها كما يلي: إنه بينما كانت مشكلة الخلافة هي أول قضية
طرحت نفسها على الفكر العربي الإسلامي فإنها كانت آخر قضية حاول هذا الفكر تنظيرها،
مع العلم أن النقاش في هذه القضية قد بدأ في وقت مبكر وأنه كان المنطلق الذي قام
عليه علم الكلام، أكثر أنواع العلوم العربية الإسلامية إيغالاً في التجريد
والتنظير.
قد يكون للعوامل السياسية دور ما في الموضوع، وعلى رأس تلك العوامل
عامل السلطة وطبيعتها الاستبدادية في صدر الإسلام، بل في القرون الوسطى عامة، ومع
ذلك فإن السياسة لا تمنع كل أنواع الكلام في السياسة، بل تمنع نوعاً واحداً هو ذلك
الذي يعارضها.
وإذن فالعوامل السياسية، أو الاستبداد. .
إلخ، لم تكن لتمنع
تنظير قضية الخلافة، على الأقل بالشكل الذي يبرر الواقع ويحاول أن يضفي عليه نوعاً
من المشروعية، العقلية تلك المشكلة: مشكلة الخلافة، فلماذا تأخير تنظير مشكلة
الخلافة بالرغم من أنها كانت منطلق البحث النظري في العقيدة؟.