شاهدت رفع علم الجمهورية اليمنية ظهيرة 22 مايو1990، وظهر في ذلك الحين صالح والبيض يتوسطان قيادات يمنية قدر لها التاريخ أن تشهد تلك اللحظة التاريخية وتشارك فيها.. وللوهلة الأولى وربما لبعض الوقت، بدا صالح والبيض رمزين وطنيين كبيرين.. غير أن الزمن أثبت أن عظمة الحدث أكبر من صانعيه بكثير.
عندما دب الخلاف بين صالح والبيض كان بإمكان البيض، بل من واجبه النضال كقائد من أجل الشعب في إطار الوحدة التي ساهم في تحقيقها.. وقد بدا للناس في البداية أنه كذلك، وأدهش الناس ببلاغته الخطابية، وانجذبوا إليه من كل حدب وصوب، لكنهم انفضوا من حوله، بعد ما تكشفت سريرته وسيره نحو الإنفصال.. ولو استمر في النضال في إطار الوحدة كان لا بد سينتصر في النهاية، أما صالح فقد راوغ وساوم، وانتهى به الأمر محارباً تحت راية سامية، وهي الحفاظ على الوحدة، ولم يجد صعوبة كبيرة في التغلب على الخصوم.
غير أن الشعور بالغلبة دفع صالح إلى التصرف كمتغلب منتصر ومستحوذ أيضاً.. ولم يقتصر الإستحواذ على الجنوب كما يطرح سياسيون جنوبيون وإنما تصرف صالح كمن تملك الدولة والبلد.. وبدا وكأنه كما قال معاوية "نحن الزمان من رفعناه ارتفع ومن وضعناه اتضع".. وتوارى قادة كثيرون في الصفوف الخلفية، وفضل قادة من الجنوب العيش طويلاً في المنفى على قبول وظائف في بلاط المتغلب المنتصر.. ومع التسليم بخصوصيات لقضية الجنوب، غير أن اليمن فيما يخص الإستحواذ تبدو قضية واحدة وليست قضيتن.. وقد جرى أيضاً تهميش لمكانة عدن عاصمة دولة الجنوب قبل الوحدة، وهي المدينة الرائعة التي أرى أن تكون عاصمة لليمن وهي أصلح وأنسب من صنعاء، لأسباب كثيرة أهمها تفاقم مشكلة المياه في صنعاء.. أما تهميش الرموز التاريخية، فلم يُستَثنَ الشمال منه أيضاً: الحمدي والنعمان والعواضي وعبدالرقيب أمثلة.. ولعل من حسن الطالع أن أبطال ساحات الحرية من شباب وشابات اليمن يحتفون اليوم بالرموز التي هُمِشَت طوال العقود الماضية وينصفونها.. وقد رأيت أن أكبر صورة مرفوعة أمام منصة ساحة الحرية في صنعاء، هي للرئيس/ علي ناصر محمد، وأعجبت برؤيتها مرفوعة عالياً فوق الهامات الأبية، وفي ذلك تعبير عن التقدير لإخلاص الرجل لوطنه الواحد، وامتناناً لموقفه المؤازر للثورة والتغيير، وربما إضافة إلى ذلك تعاطفاً مع خروجه مرتين من صنعاء وعدن مكرهاً ثم استمراره رصيناً ووقوراً طوال أكثر من ربع قرن!..
وفي مكان آخر رأيت صورة "عبدالفتاح" إلى جانب صورة "المهاتما غاندي وجيفارا"، وفي ذلك انحياز من شباب اليمن الأبرار إلى الانفتاح والتسامح ورفض التهميش والتعصب.
بعد انتفاضة الشعب وثورته في وجه الظلم، كان ظهور الرئيس/ علي ناصر والرئيس/ حيدر العطاس، كزعماء جهويين يتبنون فيدرالية من إقليمين، في مؤتمر تشاوري لأبناء الجنوب، ملفتاً للنظر كثيراً، ومستغرباً إلى حد كبير.. ولا بأس من تبني رؤى لقضايا اليمن، ومنها قضية الجنوب، على أن تخضع تلك الرؤى لحوار وطني شامل ومسؤول، ولا باس أن يكون هناك من يمثل الجهات، غير أن قادة كباراً من طراز العطاس وعلي ناصر، تتطلع إلى دورهم اليمن كلها وليس جزء منها فقط، خصوصاً بعد ثورة التغيير الشاملة على النظام في كل ربوع اليمن.
في الصف الأول شاهدت الدكتور/ محمد قرعة الذي لم ينس أن يؤكد في ورقته التي قدمها في المؤتمر، على أن لكل إقليم ثروته، وهذا ما تبناه مؤتمر القاهرة أيضاً.. والمقصود هنا كمية البترول البسيطة التي تتواجد في أطراف بعض المحافظات الشرقية وتوشك على التلاشي..
ذات مرة قال أحد الكتاب الشباب إن الحراك "داعس" بترول، وقلت له إن النفط سلعة ناضبة، وهي في اليمن على وشك التلاشي والحمد لله!، وإذا هناك من نفط قادم فأكثره في مأرب وفقاً للدكتور/ أحمد علي عبداللاه -ابن الضالع، ورئيس هيئة استكشاف النفط السابق- غير أن النفط غالباً ما يكون نقمة وليس نعمة في كثير من دول العالم الثالث، وقد يتسبب في فساد مروع، كما هو حال اليمن، وتدهور قيمي وأخلاقي، وإفقار ثقافي وحضاري كما قال "روبرت بوروس" في كتاب له عن اليمن في منتصف الثمانيات..
ولا بد من إدراك أن ثروة اليمن الحقيقية هم شبابه وشاباته إذا حسن تأهيلهم وإعدادهم في عصر اقتصاد المعرفة..
بعد اندلاع ثورة التغيير في اليمن قال صالح لقناة "العربية": إن اليمن ستنقسم إلى أربعة أشطار وربما أكثر، ويقصد أن ذلك سيحصل لو أنه غادر الحكم!، واضح أن الرئيس لم يكن موفقاً في ذلك النوع من الترهيب، حيث بدا وكأنه يقول إما بقائي حاكماً أو الطوفان، وكان لا بد أن يدرك أن بقاء الإنجازات بعد رحيل صانعيها هو ما يعول عليه ويحسب لصانعيها.. ويذكرنا كلام صالح بغضب البيض الذي قاده إلى الإنفصال بسبب الصراع مع صالح على السلطة والنفوذ والصلاحيات.. لكن تبقى مسؤولية صالح أكبر من البيض وقد حكم الدولة الموحدة واحداً وعشرين عاماً وكان عليه أن ينجز خلال عقدين من الزمن كل ما يرسخ الوحدة ويطمئن على مستقبل اليمن..في كل الأحوال، لا يجدر بالشعب اليمني إلا أن يكون موحداً وأن يبقى كذلك إلى الأبد، ولا أجد مفارقة إذا قلت: أراد البيض وصالح ذلك أم لا، فليس لأحد أن يفصل اليمن على مقاس كرسيه ومصالح عائلته وشلته أو منطقته وتقلبات مزاجه فقط!.
* نقلاً عن نيوز يمن
علي أحمد العِمراني
مايو 1990م.. الحدث أكبر من صانعيه 2593