عدن المدينة المتواضعة حد الاستحياء من زئيرها، المدينة الوديعة التي لا تنتقص من أحد ولا تقلل من إنسانية أي شخص يقطنها، لا زالت عاقدة العزم على المضي قدماً في طريق العودة إلى رقيها وتحضرها واسترداد سكون وهدوء مجتمعها المسالم واستعادة طبيعتها الآمنة التي سبق وأن أكسبتها مكانة عالمية بين الأمم وفي مختلف أصقاع الأرض وزاد من ذلك حنين المتلهفين والطامعين الذين يعدونها قبلة استراحة لهم ومتنفس سياحي رائع للاستكانة بأجوائها من ويلات الدهر وهموم الزمن.
عدن بحد ذاتها كانت وما تزال تمنحنا دفئاً فريداً وتسكننا بالحنان الوطني وتمدنا بعاطفة الأمومة التي نحتاج إليها في كل نوائب الدهر وكلما داهمتنا شيخوخة التضاريس، عدن المدينة التي علمتنا أن نكون نسيجاً واحداً، بعد أن أذابت بمدنيتها كل الأعراق والأجناس التي وفدت إليها عبر عصور التاريخ، لقد تعلمنا من هذه المدينة الكثير والكثير عن التحفز والتعامل مع بعضنا وكيف نعيش ونتعايش في المدن الحضرية؟، علمتنا الحب والحنان والتواضع والبساطة والصبر، علمتنا الكثير من الدروس القيمة التي نأسف اليوم لعدم استيعابها من قبل الكثير من الدخلاء عليها.
عندما خرجت الاحتجاجات الجماهيرية إلى الشارع للمطالبة بإسقاط النظام كانت عدن السابقة إلى الساحات، وروت مدنيتها المسالمة بأول قطرات الدماء التي سالت على ترابها عصر يوم ال16 من فبراير عندما قتلت قوات النظام الآيل إلى مزيلة التاريخ الشابين "العلواني وياسين" بعد أن طالتهم يد الغدر البوليسي وهما آمنين في مدينة المنصورة، ليستشيط الناس يومها غضباً عارماً، الأمر الذي أدى إلى تزايد الحركات المطالبة بالتغير واتساع رقعتها لتسقط بعدها دماء كثيرة لشباب أرادوا أن يغيروا واقعهم بطرق سلمية وحضارية، لكن قوى الشر والفساد أبت إلا أن تقمع تلك الاحتجاجات الثورية المشتعلة في كل أرجاء اليمن و ليس في عدن فحسب .
لقد أثبتت عدن سلمية ثورتها ومشروعية مطالبة أهاليها بالطرق المشروعة والسلمية منذ انطلاق الحركة الاحتجاجية الجنوبية السباقة عربياً إلى تبني خيار النضال السلمي من خلال المطالب الحقوقية المشروعة التي بدأها الحراك الجنوبي في العام 2007م ودامت سلميتها لأكثر من خمس سنوات من عمر النضال السلمي الذي خاضه قادة وأنصار الحراك وكلله بآلاف الشهداء والجرحى، من قادوا بدمائهم الطاهرة إلى تزايد شعبية الحركة الاحتجاجية الجنوبية بعد حرصها على التمسك بسلميتها حتى غدا الحراك الجنوبي بفضلها السبّاق في المنطقة برمتها إلى تبني ومواصلة النضال السلمي ومطالبه بكافة حقوقه .
إن أبناء الجنوب الذين شردهم النظام واغتصب أرضهم بصورة ألهبت مشاعرهم وحركت الجمود لدى الكثير منهم ومن القوى التي أعادت حسابات النظام في جنوب بلادنا الحبيبة.
لقد أسهمت الاحتجاجات والتظاهرات في تجديد الأمل ببزوغ فجر عهد جديد يكفل لكل اليمنيين عيشاً كريماً ومواطنة متساوية بعيداً عن كل المصالح الذاتية، لكن المتابع اليوم لما يدور في هذه المدينة من أحداث وتقطع واغتيالات وانتشار ظاهرة السلاح في الأسواق والشوارع والميادين العامة تزرع حالة من الخوف لدى كثيراً من ساكنيها وقلق متزايد على مستقبل هذه المدينة المسالمة التي لم تعرف السلاح ولم تعهده من قبل.
في عدن للبرهة الأولى تشعر بأنك ليس في هذه المدينة التي عرفتها من قبل، بل في بلد غريب يقترب بك من "محاربي القارة السمراء" حيث ينتشر حمل السلاح وتستوقفك دون شك حالة من الذعر حينما ترى لعلعة سماءها بطلقات النار وأنواعاً مخيفة من الألعاب النارية المتزامنة مع صوت الرصاص حينما يحل مساء كل يوم، حتى غدا السلاح الآن فيها إحدى التقليعات الشبابية الجديدة للموضة ، حيث ترى الشاب يخرج بالبنطال الجينز والسلاح على كتفه ، كما لو أنه أصبح لعبة مسلية في أيادي صغار السن ويستخدمونه حتى في أوقات مزاحهم كما أن هناك جهات خفية تسعى إلى جر المحافظة إلى مربع العنف بعد انتشار ظاهرة السلاح والتقطع والاختطافات ليصل الأمر إلى قتل مواطنين من أبنائها يعملون على متن سيارات تابعة للدولة بحجة العمالة وغيرها من الأوهام والتوهمات الجزافية، و ذلك من اجل الاستيلاء على تلك السيارات أو نهب محتوياتها، و الأدهى من ذلك أن تتحول المدينة في ظل ظروف كهذه إلى سوق سوداء لتجارة سيارات مهربة و مسروقة إما عن مواطنين أو جهات حكومية أو مهربة من دول الجوار عوضاً عن تركيب لوحات مزورة.
ولذلك يبقى السؤال الملح لدى كل من ألقى السمع وهو بصير، عمن يقف وراء هذه الظواهر وبروزه هذه الجهات الدخيلة على المدينة ومن يمدها بالأموال والسلاح، وأين الحكومة وواجبها، وماذا يريد هؤلاء من عدن؟ هل يريدونها أن تكون مستنقعاً للسلاح والثأر والاقتتال؟.
لاشك أن ما حدث خلال الأيام والأشهر الماضية كان دخيلاً يجعل المدينة وأهلها أكثر توجساً وريبة من أي وقتاً مضى، لكون عدن المدينة العتيقة الصامدة في وجه المتآمرين يراد لها أن تسقط بمخططات غريبة تهدف إلى زعزعة أمن واستقرار المحافظة وخلط الأوراق فيها، لتكون مرتعاً خصباً لأولئك الذئاب البشرية الذين يتفننون في نهش لحوم الأبرياء ، ويجعلون من مشاعر الأمل والخير يسيران في اتجاهين متوازيين، لاسيما إذا ما علمنا أن رياحاً من هذا القبيل تهب لتلتهم كل شيء جميل هنا.
فالمعطيات أمامنا تشير إلى انزلاق بعض الجهات أو (الجماعات ) إلى مربع العنف والفوضى والاستيلاء على ممتلكات الدولة مما يمكننا من البناء على ضوء هذه التطورات أنه لا يوجد موقف واضح للدولة في المحافظة ، بل إن هناك من يتهم النظام بزرع تلك الخلايا في عدن ، لزعزعة الاستقرار كما فعل مبارك في مصر عندما نشر بلاطجته وأمر بالإفراج عن جميع المساجين وذوي السوابق ليعبثوا بكل ما بنته مصر خلال القرون الماضية، وبالتأكيد أن هناك تشابهها فيما يجري اليوم في عدن وما جرى في مصر، ولا أعرف لماذا عدن دون غيرها من المحافظات ،و قد يقول قائل إن ما يجري في أبين أشد وطأة مما يجري في عدن، لكن المؤكد أنه على العكس إذا ما نظرنا إلى فوارق الطبيعة السكانية والسمات الحضارية والعدد الحقيقي لسكان المدينتين، كما أنه من الصعب المقارنة بين مدنية وسكون المحافظتين لان عدن لأتعرف السلاح ولم تعرف الفوضى والتقطع الجاري من قبل كما يؤكد سكانها .
التعصب والتهور وعدم قبول الآخر كان لهما إسهاماً كبيراً في الماضي عندما أقصيت بعض التيارات وفي نهاية المطاف أدت تلك التعصبات إلى تفجر مجازر في الساحة الجنوبية ما زال التاريخ يذكرنا بتلك الماسي إلى اليوم، وبما إننا جميعاً متفقين على رفض الوصول إلى هكذا سيناريوهات دموية من تلك التي كانت قد طويت ملفاتها وكان لملتقيات التصالح والتسامح في الجنوب الأثر الكبير على إزالتها من القلوب والقضاء عليها بوحدة الهدف المصيري لكل الجنوبيين .
أمام جماهير متعطشة من أجل النضال السلمي الذي انطلق في العام 2007م وكان السبق فيه لكل من باعوم والنوبة والسعدي والداعري وبن فريد ، وهيثم الغريب، ويحيى الشعيبي ، وعلي منصر ، وعسكر والطويل ووووغيرهم الكثير والكثير ممن نادوا بشرارة الثورة السلمية في مختلف ساحات المدينة، وصمدوا أمام قوات وعتاد النظام الذي حاول جاهدا تشتيت حركتهم وتمزيقها من أجل أن يتسنى له محاكمة رموز الجنوب، قبل أن يلجأ إلى قتل المئات من شباب الجنوب وإصابة الآلاف من الجرحى الأبرياء الذين يناضلون سلمياً .
إلى كل هؤلاء وغيرهم من جمعيات ومنظمات حقوقية ومدنية وأحزاب نقول أين أنتم مما يجري في عدن؟ نطالبكم بتحديد موقفكم بكل شجاعة ودون خوف كما عهدناكم من قبل ولو من أجل عدن التي احتضنتكم جميعاً ووحدت حلمكم الجنوبي، لأن عدن هي مدينة السلام لا السلاح، مدينة الهدوء والسكينة منذ الأزل وعاصمة ثورتكم السلمية ودولتكم المنشودة.
إذا كان النظام قد أهداها إلى أياد العبث وسلمها إلى نزوات تلك الجماعات المسلحة التي تعبث فيها وبسكونها ومدنيتها بصورة تستدعي إيقاظ عزائمكم، ولاشك أن باستطاعتكم أنتم كرموز وقادة وأنصار وطنيين أن تقولوا لا لزعزعة سكينة وأمن وهدوء هذه المدينة وان تقفوا صفاً واحداً في وجه كل من تطاوعه نفسه العبث بأمننا واستقرارنا فيها، و لا نريد أن تسود فيها لغة البارود ورائحة الفتنة .
نريد أن تعود الابتسامة إلى ثغر اليمن الباسم وأن نقرأها على كل الوجوه القادمة والقيمة في عدن، نريد أن نكبر بهذه المدينة ونسمو بها، و لا نريد أن نغسل عليها أوساخنا وندنس ترابها الطاهر لهثاً وراء أطماع زائلة.