قد نرى في الحياة أشخاصاً متساوين في الدرجات العلمية والاجتماعية والاقتصادية, ولكن إذا نظرنا في مسالة التأثير والتأثر لوجدنا أن هناك فرقاً شاسعاً بين شخصين من تلك الفئة وبوناً واضحاً بينهما, فأحدهما تجده متأثراً بواقعه ومؤثراً في مجتمعه وقد يصل إلى درجة من الانشغال بهموم أمته ووطنه، وجلّ وقته مشغولاً، بل لا يكاد يحصل على سويعات ليأخذ فيها قسطاً من الراحة, بينما ترى الآخر في فراغ وتيهان على الرغم من التساوي بينهما, فعندما ننظر إلى الشخصين نكاد لا نصدق ما نراه، بل تسيطر علينا الدهشة عندما نرى الأعمال قد تباينت بينهما، فنسأل أنفسنا لماذا أصبح الأول بهذا الحجم الكبير في مجتمعه؟!، وبهذا التأثير في أمته؟! ولماذا أصبح الآخر بهذا الإحجام الذي لا يكاد أن يعرفه إلا ذويه؟!
إن الأول صاحب همة عالية، بحيث لا تقف عند الشهادات الدراسية التي منحت له, لأنه لم يكن يبحث عن الشهادة، بل كان يبحث عما هو أعلى وأغلى من ذلك, كان يبحث عن شهادة سقفها السماء، فشعر بألم أمته وسعى لتحقيق أملها وحمل هم وطنه فوثب لخدمته وحفظ أمنه، فكل تلك الصفات التي وفقه الله لها وعلمها، فوفقه الله من نجاح إلى نجاح واشغله بطاعته، فأصبح بفضل الله كبيراً، لأنه تجاوز كل حواجز التثبيط من خوف وبلادة وعادات موروثة سيئة وأعراف بغيضة .
أما الآخر فقد ثابر وكابد المتاعب بأشكالها ليحصل على الشهادة التي كانت هي سقف كل مطالبه، فحصل بها على الوظيفة واستلم بها الراتب الذي كان من أهم مطالبه، فأصبح يدور في فلك الذات الإنسانية الأنانية ولم يستطع أن يتجاوزها، لذا تراه غير معروف في مجتمعه، لأنه لم يشارك في همومه ولم يخدم وطنه ولم يتغير بالمؤثرات التي تطرأ على الوطن.
إن الأول صار رقماً صعباً عندما ترك بصمته على جبين التاريخ، نبراساً يضيء للأجيال طريقها, أما الآخر، فقد كان رقماً زائداً، لا مكان له ولا بصمة في جبين التاريخ .
وإن ما نراه اليوم جموع هائلة من الشباب الذين خرجوا من بيوتهم على اختلاف انتماءاتهم الاجتماعية إلى ساحات الكرامة والحرية، حاملين هموم الوطن الأرض والإنسان يقاسم الفقير فيهم الغني طعامه وشرابه، جمعهم هدف واحد واحتضنتهم ساحة واحدة، يرفع راية السلام ويطالب بالعدل والمساواة وينبذ العنف وأشكال التطرف، يواجه آلة الحرب المتنوعة وأسلحتها المتعددة بصدوره العارية وبشجاعة يعجز الإنسان عن وصفها وتفسيرها , بينما أقرانهم في الطرف الآخر يتفرجون على الشاشات وينتقدونهم على تلك التضحيات التي يقدمونا ويقرأون أخبارهم في كل الوسائل النتاحة على الساحة الإعلامية, ولكنهم لا يتأثرون بالدماء التي تسكب والأشلاء التي تتطاير لا يتاثرون، لأنهم عاجزون عن القيام بتلك البطولات التي لم تكن يوماً حلمهم، فقد تبلدت أحاسيسهم، ماتت مشاعرهم وحرموا ولم يستطيعوا ترك بصماتهم على جبين التاريخ، كما تركها شباب الساحات الذين لا يستطيع أن يتجاوزهم التاريخ مهما مرت الأعوام والسنين ومهما طال الأمد .