لا اذكر متى آخر مرة زرت فيها مستشفى ولله الفضل والمنة، ولكن قبل أسابيع قليلة اضطريت للذهاب إلى هناك، لأن جدتي أصيبت بجلطة في القلب - حفظها الله وأطال بعمرها - كانت في القرية عندما تعبت فجأة، وفي اليوم التالي صباحاً قاموا بإسعافها إلى مستشفى الثورة في العاصمة صنعاء، عندما علمت بالخبر أحسست أن قلبي توقف عن النبض من الخوف على جدتي، بدأت أبكي بشكل هستيري، كانت أمي عند إحدى جاراتنا، هرعت إليها مسرعة وكنت أدعو الله أن تكون جدتي بخير حتى أراها، لقد كنت مقصرة جداً بحقها، ليس وحدي بل جميعنا من أبناء وأحفاد، أتذكر كيف كانوا يتأففون ويتضايقون منها خصوصاً عندما تنصحهم، لم اعرف بقيمة جدتي إلا حينما كادت أن تذهب من بين يديّ في غمضة عين .
لم أتمالك نفسي عندما أخبرت والدتي بالخبر، بكيت أمام جاراتنا رغماً عني، حتى ظننّ أنها ستموت، أخذت والدتي في يدي وذهبنا إلى المستشفى رغم أنها نفسها كانت مريضة .
توجهنا مباشرة إلى قسم الطوارئ، كان مكتظاً بالمرضى الذين يئنون ويصيحون ويتأوهون من الألم والمرض، حالات مختلفة ومؤلمة جداً، أكثر ما لفت نظري عجوز يقال أنه مجنون أصُيب بطلق ناري، كان مرمياً في الصالة يرتعش من الألم و لم يلق أحد له بالاً .
بحثنا عن جدتي بين المرضى الممددين على الأسرة البيضاء لم نجدها، سألنا الأطباء عنها ولكن لم نجد إجابة مقنعة، الكل مشغول، أحدهم أخيراً أخبرنا أنه ربما تكون في مركز القلب، لم أخرج من قسم الطوارئ إلا وأنا مريضة لا تكاد رجليّ تقوى على حملي من هول ما رأيت، أحسست بوهن كبير في جسمي وعظامي والصور المؤلمة التي رأيتها لا تفارق مخيلتي، سألنا عن مركز القلب وتوجهنا إليه وأمي مسكينة حالتها تزداد سوءاً، حيث كانت تمشي ببطء وأنا على عجلة من أمري، وصلنا إلى المركز، أخيراً لم يسمح لنا رجل الأمن بالدخول، سألناه عما إذا كانت متواجدة أم لا، قال أنه لا يعرف، أعصابي كانت متوترة جداً، دخلت بالقوة إلى غرفة العناية المركزة، وعند الباب سمعت صوت جدتي ..!؟ ااااه كم فرحت وكم بكيت، فقد خُيل إلي أني لن أراها مرة أخرى وكنت أظنها فاقدة الوعي والقدرة على الكلام، ناديت أمي بصوت مرتفع : جدتي هنا !!، تذكرت أننا في المستشفى، اعتذرت عن الإزعاج، دخلنا وهي تكلم الطبيب عن أعراض مرضها وخالي وابنه بجانبها، عرفتني جدتي ونادتني باسمي، فرحت جداً بحضوري، كانت على كرسي متحرك، كنت في لحظة ضعف قوية لم أتمنَ أن يشاهدني أحد بهذا الموقف خصوصاً والدتي، جثوت على ركبتي ودفنت رأسي في حضنها ودموعي لا تتوقف، طلبت منها أن تسامحني على ما بدر مني في الماضي وأخبرتها أنها لو صار لها مكروه لا سمح الله فلن أسامح نفسي أبداً وسأظل أذكرها وفي قلبي حزن شديد، قبلتني ودعت لي، وقالت إنها حزينة لأجلي لتركي وظيفتي، وان المفروض على الفتاة أن تؤمن حياتها ومستقبلها بعملها وعلمها ولا تعتمد على أحد أبداً، كل مرة كنت ألقاها فيها كانت تقول لي نفس الكلام بإصرار، ولكن آخر مرة دخل كلامها إلى أعماق قلبي، جدتي تحبني وتخاف علي وتبحث عن مصلحتي أكثر مني حتى وهي تعاني من الألم والمرض، لأنها خبرت الحياة وجربتها.
قبل أن يتم نقلها إلى الدور الثاني خضعت جدتي للمراقبة في العناية المركزة في مركز القلب لمدة 3 أيام تقريباً، حرصتُ فيها على زيارتها يومياً، وفي العناية المركزة قصصُ كثيرة مؤلمة جداً، لن أنسى ذاك الشاب الذي صار جلدًا على عظم فاقداً كل أمل في الحياة بعد إصابته بفشل كلوي تام، فصار ينتظر الموت ليرتاح من معاناته، والطفلة لطيفة التي جاءت برفقة والدها من إحدى القرى النائية بعد أن ساءت حالتها وتركت فصول الدراسة، لأنها تعاني من خلل في صمامات القلب ولا تستطيع التنفس أو الوقوف على رجليها إلا بصعوبة ( تُوفيت مؤخراً رحمها الله)، أو الرجل العجوز الذي يكاد قلبه لا يعمل، وغيرهم الكثير والكثير لا يتسع المجال لذكرهم.. لقد أدركت كم أحب جدتي وكم أخاف أن أفقدها، لقد هانت كل همومي بل هانت الدنيا بأكملها في عيني حين لاحظت أني قادرة على المشي دون مساعدة أحد، فعلاً لتعرف قيمة الحياة والصحة قم بزيارة قصيرة لأقرب مستشفى وعندها ستهون عليك كل مشاكل الدنيا وهمومها، لأنك حينها ستدرك أنك تملك كنزاً ثميناً لا يملكه الكثيرون .. إنها العافية، تعلمك زيارتك للمستشفى كيف تكون على تواصل مع أحبائك، وأن لا تقصر بحق أقربائك أو أصدقائك بـالسؤال عنهم أو زيارتهم من وقت لآخر، وألا تنتظر أن يصيبهم أي مكروه لتندم بعدها على تقصيرك حين لا ينفع الندم.
صدق المثل الذي يقول الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى .
أسأل الله العلي العظيم أن يجنبنا وأحبائنا وأبناء الوطن الغالي كل مكروه أو مرض.. ويلبسهم ثوب الصحة و العافية.
ملاك عبدالله
سامحيني يا جدتي 2526