إن مشكلة تأخر سن الزواج لم يعد من الممكن حصارها في نطلق مجتمع بعينه أو داخل فئة معينة من الناس، وإنما أصبحت مشكلة كئيبة تهدد مجتمعنا الإسلامي ونأخذ بخناق قيمة ومثله الرفيعة، ولذا يجب ألا يكون التصدي لها فرديًا لا يسمن ولا يغني من جوع.
وقد أحسنت حكومات بعض الدول الإسلامية صنعاً حين وضعت خطة ناجحة لمساعدة الشباب الراغب في الزواج فاعلته ماديًا ووفرت له الاحتياجات اللازمة لبداية حياة زوجية موفقة، وعلي الآباء ألا يغالوا في مهور بناتهن طمعًا أو فخراً، فيساهموا عن غير قصد في تفاقم أزمة موجودة بالفعل وليست بحاجة إلى من يزايد عليها.
حاول كثير من الدعاة الإسلاميين والباحثين الاجتماعيين النفسانيين التصدي لهذه الظاهرة ومحاولة حصرها وإيجاد الحلول المناسبة لها، فالدعاة الإسلاميون انطلقوا في أن الله سبحانه وتعالى خلق هذا الكون على ظاهرة الزوجية كما جاء في القران الكريم فوله تعالى ({سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ }يس36.. وفي آية أخرى قوله تعالى ({وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }الذاريات49، أي أن هناك ذكر وأنثى في الحيوان والإنسان وبعد أن خلق الله آدم خلق له من نفسه زوجاً ( حواء).
يسعد الإنسان ويستريح في عائلة يسكن بعضهم إلى بعض قال تعالى ({وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}، الروم 21، ولم يقف دور الدعاة عند هذا الحد، بل حاولوا تصحيح المفاهيم المغلوطة وتذكير الناس بالحكمة من الزواج ومقاصده وضرورته الاجتماعية والنفسية وتوضيح كيف اهتم الإسلام بعقد الزواج بوصفه أساس بناء الأسرة وان هناك أسساً يجب أن يقوم عليها من حسن الاختيار والخطبة والكفاءة وعدم الإكراه والإشهار والولي والصداق، كما أن له أيضاً أهدافاً يجب تحقيقها وهي السكن والمودة والرحمة وتربية الأبناء، فضلاً عن تحذير الناس من مخالفة إتباع المنهج الإسلامي في اختيار الزوج أو الزوجة وخطورة ربطه بأسباب دنيوية من مال أو جمال أو حسب دون الاهتمام بالدين والخلق الصالح حتى لا ينتهي بهم إلى الطلاق.
أما الباحثون الاجتماعيون فقد دعوا إلى استلهام طرق غير نمطية في تسيير الحياة المعاصرة ونبذ الطرق البالية، فالقناعة والرجوع إلى البساطة هو السبيل نحو الزواج الناجح، مثال ذلك تشجيعهم قبول المرأة العاملة المشاركة في نفقات المنزل، والله سبحانه وتعالى أقام هذا الكون على ظاهرة الزوجية، أي الازدواج كما جاء في القرآن الكريم (سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون) وأيضاً في الآية الأخرى (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون)، (خلقنا زوجين) أي أن هناك ذكر وأنثى في الحيوان والإنسان وحتى في النبات هناك حبوب التذكير وحبوب التأنيث، وحتى الكهرباء فيها موجب وسالب، وحتى الذرة فيها إلكترون وبروتون، شحنة كهربائية سالبة وشحنة كهربائية موجبة، أساس البناء الكوني هذا الازدواج، فالإنسان لا يستطيع أن يعيش وحده لذلك ربنا لما خلق آدم لم يدعه وحده خلق له من نفسه زوجاً ليسكن إليها، تسكن أنت وزوجك الجنة، إذ لا معنى أن يعيش الإنسان في الجنة وحيداً فريداً، فمن أجل هذا لابد أن نساعد على أن تستكمل الحياة الزوجية مقوماتها بهذا الاقتران بين الذكر والأنثى في ظل الشرع وتحت أحكام الشريعة الغراء وذلك بالزواج.
في الواقع إنه في عصر النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن الناس يشكون لا من عنوسة الإناث ولا من عزوبة الشباب، لأن الزواج كان سهلاً وميسراً والنبي صلى الله عليه وسلم يقول "أقلهن مهراً أكثرهن بركة" ولم يكن الناس يعسِّرون في هذه الأمور، النبي عليه الصلاة والسلام زوَّج سيدة نساء العالمين فاطمة رضي الله عنها لعلي بن أبي طالب بمهر عبارة عن درع اسمه "الحطمية"، فالمرأة ماذا تفعل بالدرع ولكنه أشبه بشيء رمزي، فهل تبيعه! أو تتزين به! كانت الأمور ميسرة والإنسان كان يعرض أحياناً ابنته، فسيدنا عمر عرض على سيدنا أبي بكر حينما أصبحت حفصة بغير زوج فقال له: هل لك في حفصة ابنتي ـ أي هل تتزوجها ـ فلم يرد عليه، ثم ذهب إلى عثمان وسأله: هل لك في حفصة؟ فلم يرد عليه، وذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له يا رسول الله عرضت حفصة على كل من أبي بكر وعثمان فلم يردا علي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يزوج الله حفصة خيراً من عثمان ويزوج الله عثمان خيراً من حفصة"، وفعلاً تزوج عثمان ابنة الرسول صلى الله عليه وسلم الثانية، فكان الأمر سهلاً لم يكن الناس يعسرون.
والآن نحن عندما نريد أن نتزوج اخترع الناس هدية أو شيء سموها الشبكة ثم يعمل حفلة للخطوبة، ثم حفلة عقد القِران، وحفل الزواج ويا ليته مثل السابق، كان الشخص يذبح خروفين ويدعي عليه الناس، إنما الناس الآن أصبحت تعمل حفلات زواجها في الشيراتون أو الهيلتون أو الفنادق الأخرى، وتتكلف أضعاف مضاعفة، والهدايا في فترة ما قبل الزفاف والولائم والأثاث، تأثيث البيوت والمفاخرة والرياء الاجتماعي، كل واحد يحب أن يباهي الآخرين ويكلِّف نفسه ما لا يقدر عليه لماذا كل هذا؟ المفروض كما يقولون "على قدر لحافك مد رجليك" (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً)، إنما الشخص يريد أن يفاخر ويباهي ويشتري من الأثاث ما لا يستطيع، فكل هذه التكاليف تعرقل الزواج وتعوق خطواته، في عصر النبي عليه الصلاة والسلام كان الأمر سهلاً وما كانوا ينظرون إلا إلى دين الشخص وخلقه "إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه".
وبالنسبة للمرأة أيضاً "تنكح المرأة لأربع لحسبها ولمالها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك"، فقد حث النبي صلى الله عليه وسلم أن نهتم ونركز على الدين والخلق سواء بالنسبة للمرأة أو بالنسبة لمن يريد أن يخطبها ويتزوجها وكانوا يقولون "إذا زوجت ابنتك فزوجها ذا دين إن أحبها أكرمها وإن أبغضها لم يظلمها"، فهي كسبانة كسبانة، ويقول الإمام الشافعي وهو من أئمة التابعين: من زوَّج ابنته من فاسق فقد قطع رحمها.. فهذه كانت أمور الزواج في الحياة النبوية، وكانت المرأة تتزوج بسهولة والرجل يتزوج بسهولة مثلاً الرجل استشهد ونحن نعرف أن عصر النبوة عصر جهاد، فالنبي عليه الصلاة والسلام غزا سبعاً وعشرين غزوة شهدها بنفسه وبعث بضعة وخمسين سرية بعث فيها الصحابة وكان هذا في تسع سنوات، فكانت الحياة بهذه الصورة، وهذه الحروب أدت إلى شهداء والشهداء وراءهم أرامل، هؤلاء الأرامل كن يتزوجن بسهولة بعد استشهاد أزواجهن أحياناً، الآن نجد أن المرأة إذا مات زوجها لا تتزوج وكأن الزواج عيب، أضرب لكم مثلاً أسماء بنت عميث رضي الله عنها كانت زوجة لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ولقد استشهد زوجها في مؤتة وهو أحد القواد الثلاثة الذين استشهدوا في مؤتة، فانتهت عدتها وتزوجها أبو بكر رضي الله عنه، وبعد أبو بكر الذي عاش بعد جعفر سنتين ونصف، عندما توفي أبو بكر، فخطبها علي بن أبي طالب وتزوجها وكان عندها أولاد من جعفر وأولاد من أبي بكر وأولاد من علي وكان أولادها يأتي كل واحد يقول للآخر: أنا أبي خير من أبيك، وحينما تحتد بينهم المنافسة يحتكمون إلى الأم، فكانت تحل المشكلة بفطنة وحكمة تقول لهم: أبو بكر سيد الشيوخ، وجعفر سيد الكهول، وعلي سيد الشباب وترضي الجميع، فأنا أقول إن الحياة كانت فطرية والأمور سهلة شعوذة، دجل، أوهام، خرافات، خزعبلات، هذه بعض أسماء وصفات لأدوات وحِيَل وممارسات الدجالين الذين لا يكفّون عن خداع ضحاياها بزعم معرفة مستقبل حياتهم، على الرغم من سطوع حقيقة أن "الغيب بيد الله تعالى وحده"، فالمشعوذون يستغلون مشكلات الناس وآلامهم ومعاناتهم في بعض مجالات الحياة، لتضليلهم، واستنزاف أموالهم.
بدايات الأعوام الجديدة تمثل "مواسم" ينشط فيها المشعوذون والدجالون، لاستغلال أكبر عدد من ضحاياهم الباحثين عن المجهول، بعض الدجالين يتدخلون في حياة الناس إلى حدّ دفع بعض النساء إلى تغيير أسمائهن بزعم أنها تمثل "فألا" سيئا عليهن، المشعوذون "يصطادون" البسطاء بترويج "الأكاذيب" عن حياتهم المستقبلية، ولو أنهم "فكروا" فيما يروجونه لوجدوه "عموميات" تصلح لآلاف الحالات غيرهن، علماء الدين والنفس والاجتماع والصحة يجزمون بأن وراء اللجوء للمشعوذين مشكلات عديدة تبحث عن حلول، منها: والعنوسة، والبطالة، والقلق النفسي، والجهل بالدين، والاكتئاب، والخوف، والإحباطات المتراكمة، ويجزمون بأنه لا يجوز اللجوء إلى قراءة الكف، أو الفنجان، أو الأبراج بدعوى معرفة الغيب، ويحذرون من أن الدجل والشعوذة وراء زيادة حالات الطلاق، والعنف الأسري، والقلق النفسي، والاكتئاب، والانتحار، كما تصيب الإنسان بأمراض عضوية ونفسية مزمنة، ويلفتون إلى حقيقة أن "التقنيات الحديثة" شجعت المضطربين نفسياً واجتماعياً على الاتصال بالمشعوذين، ويؤكدون أن "المفاهيم الخاطئة" نتيجة حتمية لغياب الوعي الديني، وأن النظرة الإيمانية للحياة، والرضا بالقضاء والقدر ضرورتان، لمواجهة مزاعم الدجالين.
وهكذا فإنه يمكن قبل التفكير بالطلاق والانفصال أن يحاول كل من الزوجين تفهم الطرف الآخر وحاجاته وأساليبه وأن يسعى إلى مساعدته على التغير، وكثير من الأزواج يكبرون معاً، ولا يمكننا نتوقع أن يجد الإنسان " فارس أحلامه" بسهولة ويسر ودون جهد واجتهاد ولعل ذلك "من ضرب الخيال" أو " الحلم المستحيل " أو "الأسطورة الجميلة" التي لا تزال تداعب عقولنا وآمالنا حين نتعامل مع الحقيقة والواقع فيما يتعلق بالأزواج والزوجات. ولا يمكننا طبعاً أن نقضي على الأحلام ولكن الواقعية تتطلب نضجاً وصبراً وأخذاً وعطاءً وآلاماً وأملاً.
وتبين الحياة اليومية أنه لابد من الاختلاف والمشكلات في العلاقة الزوجية. ولعل هذا من طبيعة الحياة والمهم هو احتواء المشكلات وعدم السماح لها بأن تتضخم وتكبر وهذا بالطبع يتطلب خبرة ومعرفة يفتقدها كثيرون، وربما يكون الزواج المبكر عاملاً سلبياً بسبب نقص الخبرة والمرونة وزيادة التفكير الخيالي وعدم النضج فيما يتعلق بالطرف الآخر وفي الحياة نفسها.
ونجد عملياً أن "مشكلات التفاهم وصعوبته" هي من الأسباب المؤدية للطلاق. ويغذي صعوبات التفاهم هذه بعض الاتجاهات في الشخصية مثل العناد والإصرار على الرأي وأيضاً النزعة التنافسية الشديدة وحب السيطرة وأيضا الاندفاعية والتسرع في القرارات وفي ردود الفعل العصبية. حيث يغضب الإنسان وتستثار أعصابه بسرعة مما يولد شحنات كبيرة من الكراهية التي يعبر عنها بشكل مباشر من خلال الصياح والسباب والعنف أو بشكل غير مباشر من خلال السلبية "والتكشير" والصمت وعدم المشاركة وغير ذلك. كل ذلك يساهم في صعوبة التفاهم وحل المشكلات اليومية العادية مما يجعل الطرفين يبتعد كل منها عن الآخر في سلوكه وعواطفه وأفكاره. وفي هذه الحالات يمكن للكلمة الطيبة أن تكون دواء فعالاً يراجع الإنسان من خلالها نفسه ويعيد النظر في أساليبه. كما يمكن تعلم أساليب الحوار الناجحة وأساليب ضبط النفس التي تعدل من تكرار المشكلات وتساعد على حلها "بالطرق السلمية" بعيداً عن الطلاق.
ويمكن "لتدخل الآخرين" وأهل الزوج أو أهل الزوجة وأمه وأمها أن يلعب دوراً في الطلاق، وهذا ما يجب التنبه إليه وتحديد الفواصل والحدود بين علاقة الزواج وامتداداتها العائلية، والتأكيد على أن يلعب الأهل دور الرعاية والدعم والتشجيع لأزواج أبنائهم وبناتهم من خلال تقديم العون والمساعدة "وأن يقولوا خيراً أو يصمتوا" إذا أرادوا خيراً فعلاً.
وفي الأسر الحديثة التي يعمل فيها الطرفان نجد أن "اختلاط الأدوار والمسؤوليات" يلعب دوراً في الطلاق مما يتطلب الحوار المستمر وتحديد الأدوار والمسئوليات بشكل واقعي ومرن، حيث نجد أحد الطرفين يتهم الآخر بالتقصير ويعبر عن عدم الرضا، ولكنه يستخدم مقاييس قديمة من ذاكرته عن الآباء والأمهات دون التنبه إلى اختلاف الظروف والأحداث، ولابد لهذه المقاييس أن تتعدل لتناسب الظروف المستجدة مما يلقي أعباءً إضافية على الطرفين بسبب حداثة المقاييس المستعملة ونقصها وعدم وضوحها.
ومن أسباب الطلاق الأخرى "تركيبة العلاقة الخاصة بزوج معين" كأن يكون للزوج أبناء من زوجة أخرى أو أن الزوجة مطلقة سابقاً وغير ذلك، وهذه المواصفات الخاصة تجعل الزواج أكثر صعوبة بسبب المهمات الإضافية والحساسيات المرتبطة بذلك، ويتطلب العلاج تفهماً أكثر وصبراً وقوة للاستمرار في الزواج وتعديل المشكلات وحلها. ومن الأسباب أيضاً " تكرار الطلاق " في أسرة الزوج أو الزوجة، حيث يكرر الأبناء والبنات ما حدث لأبويهم.. وبالطبع فالطلاق ليس مرضاً وراثياً ولكن الجروح والمعاناة الناتجة عن طلاق الأبوين، إضافة لبعض الصفات المكتسبة واتجاهات الشخصية المتعددة الأسباب.. كل ذلك يلعب دوراً في تكرار المأساة ثانية وثالثة، ولابد من التنبه لهذه العملية التكرارية وتفهمها ومحاولة العلاج وتعديل السلوك.
ومن أسباب الطلاق أيضاً انتشار "عادات التلفظ بالطلاق وتسهيل الفتاوى" بأن الطلاق قد وقع في بعض الحالات، ويرتبط ذلك بجملة من العادات الاجتماعية والتي تتطلب فهماً وتعديلاً وضبطاً كي لا يقع ضحيتها عدد من العلاقات الزوجية والتي يمكن لها أن تستمر وتزدهر، والطلاق هنا ليس مقصوداً وكأنه حدث خطأ.. وهكذا نجد أن أسباب الطلاق متعددة وأن الأنانية والهروب من المسؤولية وضعف القدرة على التعامل مع واقعية الحياة ومع الجنس الآخر، إنها عوامل عامة تساهم في حدوث الطلاق، ولا يمكننا أن نتوقع أن ينتهي الطلاق، فهو ضرورة وله مبررات عديدة في أحيان كثيرة ولا يمكن لكل العلاقات الزوجية أن تستمر إذا كانت هناك أسباب مهمة ولا يمكن تغييرها.
× كاتب مصري خبير في القانون العام
د. عادل عامر
الطلاق والاستغلال والعنوسة والجهل 2116