;
د. محمد عبدالله الحاوري
د. محمد عبدالله الحاوري

ربيع المولد النبوي الشريف 2038

2013-01-14 15:18:55


في شهر ربيع الأول كان ربيع العالم كله، ربيع الدين والدنيا، ربيع الهدى والرشاد، ربيع الخير والرحمة، إنه شهر ميلاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وميلاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو ميلاد للعلم بعد ديجور الظلام، هو ميلاد للحق بعد تعنت الباطل والفساد، وهو ميلاد للنور بعد أن عم الظلام وتجاوز حدوده في النفس والمجتمع والحياة، ميلاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو ميلاد لإنسانية الإنسان بعد أن سحقت إنسانية الإنسان تارة باسم الظلم الديني، حين أصبح الدين تجارة رائجة في بلاط السلاطين والملوك، وتارة باسم الظلم السياسي الذي يورث الشعوب أرضاً وإنساناً من الأب للابن ومن الابن للحفيد ومن الحفيد إلى من بعده، وكأنهم حيوانات تورث أو جمادات تقسم بين الأولاد والأحفاد، حتى أصبح الناس متعودين على الظلم، مستمرئين له، مثل القط يحب خانقه، وتارة ثالثة بمظالم التسلط المالي الذي ينتهك الأعراض، ويسفك الدماء، ويبغي به الناس بعضهم على بعض.
كان الميلاد النبوي الشريف ميلاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيبقى ميلادا لكرامة الإنسان بعد أن ديست كرامة الإنسان تحت أقدام الطواغيت وعبدة الطواغيت وأولياء الطواغي؛ لذلك فإن ميلاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الميلاد الحقيقي لحقوق الإنسان حين اعتبر العدوان على نفس بشرية واحدة بغير حق قتلا للبشرية جميعا، قال الله تعالى: {مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (32) سورة المائدة.
أعلن عن كرامة الإنسان، ذكرا كان أو أنثى، صغيرا أو كبيرا، غنيا أو فقيرا، قريبا أو بعيدا، عربيا أو أعجميا، فهو مكرم باعتباره إنسانا، بالنظر إلى آدميته وإنسانيته قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (70) سورة الإسراء.. هذا التكريم الإلهي لآدمية الإنسان، تجلت أبرز مظاهره في إرسال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وإنزال الكتب السماوية تشريعاً من الله تعالى لعباده، ورحمة منه عز وجل بهم، ثم كان التكريم الأعظم، والنعمة الأتم بمبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي نعيش في شهر ربيع الأول من كل عام، هذا التكريم كان بحفظ الله تعالى لكتابه من التحريف، في حين كانت الكتب السابقة يستحفظ الله عليها أهلها فحرفوها.
 ذكر القرطبي في تفسيره عن يحيى بن أكثم أنه كان للمأمون - وهو أمير إذ ذاك - مجلس نظر فدخل في جملة الناس رجل يهودي حسن الثوب، حسن الوجه، طيب الرائحة، قال: فتكلم فأحسن الكلام والعبارة. فلما تقوض المجلس دعاء المأمون فقال له: إسرائيلي؟ قال: نعم. قال له: أسلم حتى أفعل بك وأصنع ووعده. فقال: ديني ودين آبائي! وانصرف. فلما كان بعد سنة جاء مسلما. قال: فتكلم على الفقه فأحسن الكلام. فلما تقوض المجلس دعاه المأمون وقال: ألست صاحبنا في العام الماضي؟ قال له: بلى. قال: فما كان سبب إسلامك ؟ قال : انصرفت من حضرتك فأحببت أن أمتحن هذه الأديان وأنت تراني حسن الخط فعمدت إلى التوراة فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت وأدخلتها الكنيسة فاشتريت مني وعمدت إلى الإنجيل فكتبت ثلاث نسخ فزدت فيها ونقصت وأدخلتها البيعة فاشتريت مني وعمدت إلى القرآن فعملت ثلاث نسخ وزدت ونقصت وأدخلتها الوراقين فتصفحوها فلما أن وجدوا فيها الزيادة والنقصان رموا بها فلم يشتروها فعلمت أن هذا كتاب محفوظ فكان هذا سبب إسلامي قال يحيى بن أكثم : فحججت تلك السنة فلقيت سفيان بن عيينة فذكرت له الخبر فقال لي : مصداق هذا في كتاب الله عز وجل قال قلت : في أي موضع ؟ قال : في قول الله تبارك وتعالى في التوراة والإنجيل : {بما استحفظوا من كتاب الله} ( المائدة : 44 ) فجعل حفظه إليهم فضاع وقال عز وجل : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) فحفظه الله عز وجل علينا فلم يضع. لم يكن يدري هذا اليهودي أنه سيظهر في المسلمين من يتسمى بالتشيع ويدعي أن القرآن غير محفوظ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، كبرت كلمة من أفواههم إن يقولون إلا كذبا.
إن شهر ربيع بذكراه العطرة يذكرنا بأعظم إعلان للمساواة الإنسانية في تاريخ الإنسانية منذ وجدت على ظهر هذا الكوكب وحتى تختفي الحياة من فوق الأرض، مساواة الإنسان بأخيه الإنسان حين أعلن القرآن الكريم أن البشر كلهم من نفس واحدة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (1) سورة النساء. وحين أعلن أن التفاضل بالتقوى والعمل والصالح ولا تفاضل بغيره، لا تفاضل بالأحساب فليست كسبية أي لم يكتسبها الإنسان حتى يحاسب عليها بل هي خارجة عن إرادته، والله الحكيم الحكم العدل لا يحاسب عباده على شيء لم يفعلوه ولم يكن لهم فيه يد، لا تفاضل بالألوان فالذي صور العباد وأعطاهم ألوانهم التي هي آية من آياته للاعتبار لا للاستكبار، إنما التفاضل بما تكتسبه النفوس من الخير، وبما تشتمل عليه القلوب من التقوى، وما يصنعه الإنسان من الأعمال الصالحة، هذا هو ميدان التفاضل وهذا هو ميدان التكريم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (13) سورة الحجرات. وهكذا تتفاضل النفوس البشرية بما تقدمه من نفع لنفسها ولغيرها، وبما تحققه من طاعة الله في ذاتها ومحيطها، وما تكون عليه من الهداية في خاصة حياتها وعمومها، وما تستقيم فيه على أمر الله في سائر شؤونها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ما تلتزم به من طاعة الله عز وجل.
إن ميلاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي تحيي ذكراه أيام ربيع الأول هو ميلاد للحياة بكل جوانبها لتحيى بطاعة الله تعالى في سائر شؤونها بعد أن استحوذ عليها الطغيان بفساد أهل الكتاب وملوك الأمم وساسة الدول، ولم يبق إلا بقايا من أهل الكتاب متمسكين بما نزل على عيسى وموسى عليهما السلام أما اليهود والنصارى فقد أضلهم أحبارهم ورهبانهم وغيروا كتبهم، وحرفوا التوراة والإنجيل، واتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله يحلون لهم الحرام ويحرمون عليهم الحلال، ويأكلون أموالهم بالباطل، وسادت الدنيا عدوانية الشر، وقسوة الباطل، وجور الظالمين، فجاء ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم رحمة من الله على عباده، ونعمة من الله على أهل الأرض أجمعين، قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } (107) سورة الأنبياء. هذه الرحمة العامة للعالمين تستوقفنا لنقول: إن العالم اليوم يحتاج إلى رحمة الإسلام وإلى رحمة نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلم، فالعالم يتخبط في دوامات الهلاك كأنه ريشة تواجه إعصارا ولا حل له ولا رحمة إلا بما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا الأمر المهم تنبه إليه الكاتب العالمي الشهير برنارد شو فأطلق مقولته الشهيرة: ما أحوج العالم اليوم إلى رجل كمحمد يحل مشاكله وهو يرتشف فنجانا من القهوة. وفيما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم حلول مشاكل العالم ولكن المسلمين قصروا في حق التعريف بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وشوهوا بأخلاقهم وتصرفاتهم جمال هذا الدين، وأظهرت قسوة بعض المنتسبين للدين رسالة عكسية عن الإسلام.
لقد انتظر العالم طويلا هذا المولد الكريم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لإنقاذ العام من ضلالات الكهنة المضلين، ولينقذ البشرية من ظلم الملوك والأمراء الجائرين، كان العالم كله يعاني من الويلات التي يفرضها فساد السلطة الدينية والسلطة السياسية، وانحطت الأخلاق انحطاطا شديدا، جاء في صحيح مسلم: "إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك"
لقد كانت الدنيا تعيش ليلها البهيم في فترة من الرسل، قال الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (19) سورة المائدة. قال ابن كثير: وكان الدين قد التبس على أهل الأرض كلهم حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فهدى الخلائق وأخرجهم الله به من الظلمات إلى النور وتركهم على المحجة البيضاء والشريعة الغراء.
 
 

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد