لليل لغة لا يتقنها إلا من يجيد الإنصات إلى صدى مشاعره والذوبان في مفرداتها التي يكتمل نضجها على حرارة قلوبنا ودفئ أرواحنا، فالليل محطة حب من أولها إلى آخرها، حب للحياة نستشعره في لحظات الاسترخاء الأولى بعد عناء نهارٍ طويل وحب للشريك الذي يحتضن همومنا في لحظة صمت وإنصات وحب لله في آخر لحظات التجلي التي يتنزل فيها الكريم إلى سمائنا الدنيا لينادي بقبول التوبة والاستغفار، فالليل مهرجان للمشاعر الصافية بكل ألوانها التي تشعل الكون حولنا بهجة وصفاء.. لكن لماذا تتقلب عواطفنا؟ لماذا يبدأ الهجر حين يبدأ النهار؟! لماذا تذوب على حرارة الشمس كل تلك المفردات التي داعبت شفاهنا بهلاميتها اللذيذة؟ لماذا نفقد لذة الحب في زحمة الضجيج؟.. يسألني الكثير من الأزواج والزوجات عن قوالب الزبدة التي تذوب تحت أشعة الشمس كلما بدأ النهار..، فأقول: النما في الحب أننا نادراً ما نشعر به، نادراً ما نجده، ونادراً ما نعيشه، بل إن أجمل ما يميز علاقاتنا الإنسانية كشركاء أن لدى كل شخص منا ما يجعله في منطقة أمان عاطفي، لأن الحياة ستكون مملة لو أنها فقط مواقف شاعرية ولحظات رومانسية.. إن ما يجعلنا نشعر بقيمة الحب والوفاء والإخلاص وكل تلك المعاني السامية أننا مسؤولون عن تفاصيل حياتنا وتحقيق كافة احتياجاتنا التي يفوق عددها عدد الاحتياجات العاطفية التي تبقى ضرورة، لكن بشروط وحدود معينة..
لهذا ترتسم على وجوهنا خلال النهار عشرات التعابير وتحمل صدورنا مئات التساؤلات وتبقى أجسادنا بحاجة إلى الكثير لتبقى واقفة على خط الحياة، بينما تعيش قلوبنا طويلاً دون أن يسكنها الحب للآخر.. كلام الليل يمحوه النهار بقسوته واكتظاظه بمغامرات بريئة وفطرية واستهلاك لطاقة العقل والجسد بغية الوصول إلى أعشاش آمنة.. لا يستطيع أي منا أن يعيش في العراء كلنا بحاجة لمأوى وطعام وشراب وكساء وغنى عن الناس وهذا يدعونا للسعي الحثيث خلف تحقيق الكفاية والاكتفاء وتطوير الذات والدخول في دائرة التناغم الاجتماعي التي يؤطرها التكامل والتبادل الفعال للمشاعر والخبرات والمهارات..
كلام الليل تمحوه سطوة البقاء في أعلى مرحلة من مراحل الصراع البشري الذي يحدث بتلقائية ودون أن تشعر، فلكي تعيش أنت يموت أخرون وبأسباب فنائهم تنبت في رحم الأقدار أرواح.. وهكذا.
إنها سلسلة لا نعلم لها بداية ولا نهاية، سلسلة من الأقدار التي تخفي وتظهر من احتياجاتنا البشرية ما نجهل حقيقته وما لا نعلم قدرتنا على التفاعل معه أو حتى مجرد امتلاكه.
إنها الحياة، لا يمكن أن تسير على وتيرة واحدة، أو أن يحكمها قانون واحد، ولذا لا يمكن أن نفهمها بعقولنا فقط وأن نستشعرها بقلوبنا فقط.. ولابد قبل كل شيء أن ندرك أننا مزيج من هذا وذاك وأن مواقف الحياة هي من تصقل تفاعلنا مع ذواتنا ومع العالم من حولنا.
ألطاف الأهدل
كلام الليل هل يمحوهُ النهار 1890