أَعادت التغريبة الجديدة لفلسطينيي سوريا صورة التغريبة الأولى التي بدأت مع قيام الكيان الصهيوني على أنقاض الكيان الوطني والقومي للشعب العربي الفلسطيني. فالواقع العام لغالبية فلسطينيي سوريا وضَعَهُم الآن أمام نكبة جديدة مع خروج غالبيتهم من مُخيماتهم وتجمعاتهم السكنية وخصوصاً منها مخيم اليرموك ومخيم سبينة الواقع في ريف دمشق، ليصبحوا الضحايا المنسيين في الأزمة الداخلية السورية، وهم الذين اشتقوا لأنفسهم طريق (الحياد الإيجابي) في بلد شقيق توأم، أَحبوهُ حبهم لوطنهم فلسطين.
مخيم جرمانا واحدٌ من المخيمات الفلسطينية القريبة من دمشق، حيث ما زال سكانه ومواطنوه داخل حدوده بالرغم من زنار التوتر المحيط بهم. وقد اختارته وكالة هيئة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى والمعروفة اختصاراً باسم وكالة (الأونروا) كمركز لتوزيع المعونات والمساعدات الغذائية وغيرها لعموم فلسطينيي مخيم اليرموك وغيره من التجمعات الفلسطينية، والمتوزعين داخل وعلى محيط دمشق، وذلك في مدرستي (الكابري) و (القديرية) التابعتين لوكالة الأونروا ومركز توزيع المساعدات الأصلي, والكابري والقديرية هما اسمان لقريتين مُدمرتين في فلسطين المحتلة عام 1948 بعد أن تم تهجير سكانهما نحو لبنان وسوريا، الأولى قضاء عكا والثانية قضاء طبرية في لواء الجليل.
كاتب هذه الكلمات كان واحداً من هؤلاء اللاجئين الفلسطينيين المسجلين في سجلات وكالة الأونروا، ومن الذين تسلموا طرداً غذائياً لأسرته مع معونة من الكساء (بطانيات وفرش)، في مشهد أعاد صورة نكبة العام 1948 عندما تجمع آباؤنا وأجدادنا أمام مراكز توزيع المساعدات التي استحدثتها هيئة الأمم المتحدة في ذاك الوقت، إلى حين تم تأسيس وكالة الأونروا بقرار أممي عام 1949 التي تولت تلك المهمة حتى الآن.
صور توزيع المساعدات الغذائية على طوابير اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، مأساوية، وتحمل في طياتها نذير شؤم كبيرا، فبعد أكثر من (65) عاماً من نكبة فلسطين عادت الأمور وكأنها أمست من لحظة الصفر.. فأيُ مصيرٍ وأيُ نصيبٍ وأيُ حظٍ مُتعثر هذا الذي يلاحق اللاجئين الفلسطينيين من نكبة لنكبة رغم مرور تلك العقود الطويلة من الزمن.. إنها رحلة تراجيديا المأساة الفلسطينية التي مازالت تجرجر نفسها، ومازالت القضية بالرغم من كل هذا وذاك، حيّةً ومُتقدة مادام هناك طفل فلسطيني وقلب ينبض في مخيم جرمانا وغيره من مواقع اللجوء والشتات الفلسطينية.
لقد عاد مخيم جرمانا وأبناؤه المخلصون من غوارنة شمال فلسطين المحتلة عام 1948، ليُصبِحَ الحضن الدافئ لفلسطينيي سوريا، إلى جانب كل تجمع وكل موقع شتات فلسطيني على أرض العروبة في البلدان المحيطة بفلسطين والمعروفة بدول الطوق.
مخيم جرمانا للاجئين الفلسطينيين والواقع إلى الجنوب الشرقي من مدينة دمشق وعلى بعد يقارب نحو ثمانية كيلومترات عنها وعلى الطريق المؤدي إلى مطار دمشق الدولي.. واحدٌ من المخيمات الفلسطينية المنسية عند أصحاب القرار في عموم قوى وفصائل العمل الوطني الفلسطيني في الداخل والشتات، لكنه في الوقت نفسه مخيم الكبرياء والصمود، الذي قدم المئات من أبنائه في مسار الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة وفي مختلف مراحل عملها في عموم الساحات التي تواجدت فوق أرضها قوات الفدائيين الفلسطينيين خصوصاً في المرحلتين الأردنية واللبنانية من العمل العسكري الفلسطيني ومن بينها اجتياح لبنان وحصار بيروت صيف العام 1982، وقدم مئات الشهداء من أبناء المخيم عبر مسيرة الثورة الفلسطينية المعاصرة.
مخيم جرمانا، يَضُمُ كتلة سكانية تقارب ثلاثين ألف لاجئ فلسطيني غالبيتهم الساحقة من لاجئي العام 1948 من مناطق قرى وبلدات صفد وطبرية والحولة، وما يُعرف بغوارنة فلسطين (نسبة لغور فلسطين)، وهم من أكثر الفئات والقطاعات الفلسطينية التي انغمست بالقواعد التحتية لبنية المقاومة الفلسطينية منذ العام 1965، ومنهم كانت ملحمة وشهداء مخيم تل الزعتر عام 1976 الذي اجتاحته قوى اليمين اللبنانية سنتذاك في منطقة بيروت الشرقية، وكذلك مخيم النبطية جنوب لبنان والذي دمرته الطائرات الحربية الصهيونية عن بكرة أبيه عام 1974.
تأسس مخيم جرمانا عام 1948 فوق مساحة من الأرض تبلغ أقل من كيلو متر مربع واحد، وفي عام 1967، وفدت إليه أعدادٌ إضافية من الفلسطينيين الذين لجأوا من مرتفعات الجولان.. ومع مرور السنوات الطويلة ومع التخطيط العمراني الجديد لمدينة دمشق ومرور (دوار المتحلق الجنوبي) من وسط المخيم، تم نقلُ أجزاء منه لمنطقة ثانية ليصبح فيها هناك تجمع فلسطيني جديد أطلقَ عليه مسمى (مخيم الحسينية) على اسم بلدة فلسطينية من قرى الغوارنة في شمال فلسطين المحتلة منذ العام 1948.
ومن المعروف أن وكالة الأونروا تقدم كامل خدمات الإغاثة الاجتماعية والتعليم والصحة لمواطني المخيم، بالرغم من تناقص جودة تلك الخدمات وتراجعها على ضوء الأزمات المالية التي تعيشها وكالة الأونروا.
مخيم جرمانا، صورة ناصعة لفلسطينيي الشتات، وفلسطينيي سوريا على وجه الخصوص. صورة ناصعة لشعب مازال يَحفُرُ طريقه بأظفاره بحثاً عن البقاء، ومن أجل متابعة طريقه الوطني إلى فلسطين طال الزمن أم قصر. وصورة ناصعة لشعب يَحِنُّ لسوريا وللشعب السوري، ويأمل لهما أن تخرج البلاد من أزمتها معافاة، فصحة سوريا وأمنها من صحة فلسطين وأمن شعبها.
* نقلاً عن الوطن العمانية
علي بدوان
فلسطينيو سوريا ومخيم جرمانا 3471