نعم، يحدث أن يتسبب خطأ صغير في إحداث جراح كبيرة، ويحدث أن تكون كلمة واحدة سبباً في تغيير مجرى حياة أحدهم حتى ينتهي مشوار الحياة ذاك على أسوأ شاكلة.. يحدث أن يكون عود ثقاب واحد سبباً كافياً لإحراق غابة بكل ما فيها من حياة.. يحث ويمكن أن يحدث طالما وأن الطبيعة البشرية واحدة والحال الإنساني واحد وتلك الفطرة التي تحرك جوارح الناس إلى الصواب أو الخطأ واضحة، بل ومطروحة للتعاطي والتفاعل وفق ماهيتها وحسب قوامها الخالي من أي تدخل خارجي..
يحدث أن نتساهل في التعبير عن عواصف الغضب وعواطف الرضى في داخلنا ويحدث أن نحد من دوافع التعزيز التي نملكها إما خوفاً أو طمعاً أو رغبة في تدارك الرمق الأخير في حياة العلاقة التي تربط بعضنا ببعض، ومع هذا نفشل حتى في الوصول إلى نقطة التقاء واحدة يمكن أن تكون سبباً في سقوط القناع الذي نرتديه رغماً عنا في لحظة ضعف أو فترة قوة.
نتهرب دائماً من الوقوع في مأزق العاطفة التي تجعل أخطاء الآخرين في أعيننا مزايا وعيوبهم مميزات، لكن التجارب المحمومة بالجراح والتي تدفعنا لافتراض الحكم المسبق دون حتى أن نمنح الآخر فرصة الدفاع عن النفس، هي تحديداً من تحول بيننا وبين الانطلاق إلى حياة جديدة تكون فيها أحكامنا مستقلة ومبنية على قناعة القربى والخوف من انقطاع حبال الرحم المعلقة بالعرش، تلك الحبال التي قد تتدلى أحياناً كمشانق أو ترتسم على وجه التراب كشراكٍ قاتلة.. يمكن لأسباب الحياة أحياناً أن تصبح أسباباً للموت، ويمكن لكذبة صغيرة أن تشعل الحرب الضروس بين الأمم، ويمكن لغلظة قلب أن تدمر قبيلة وتزهق أرواح عشيرة.. لكن يمكن أن تكون كلمة طيبة هي من تصنع الفرق وتهيئ للحب وتبني أساساً قوياً لحياة لا يشرخ جدرانها العنف ولا يصدع زواياها الهجرة والحرمان.. هناك دائماً خيط رفيع بين ما تجبرنا عقولنا على القبول به وبين ما تحاول قلوبنا أن تجعله أسلوباً للحياة، هناك دائماً ما يدعونا للتسليم بقرارات مغايرة لما نحب ونكره، هناك دائماً تراكمات سابقة، هناك دائماً ماضٍ سحيق، هناك دائماً قلوب عاجزة عن الغفران..
عانيت كثيراً وأنا أستمع إلى شكوى صديقة عانت طويلاً من ذلك التشتت والتمزق الأسري الذي جعلها تعيش غريبة بين أفراد أسرتها، وحيدة أمام طابور من العتاولة، إخوة يوسف الذين ألقوها في غيابة الجب النفسي بعد أن بارت بين أيديهم الحيل للاستيلاء على مالها الذي ورثته عن زوج تركها أميرة ورحل إلى عالمه الآخر قبل أن تكمل وإياه عاماً واحداً من الحياة الزوجية.. عانيت بمرارة وأنا أستمع لأناتها تغادر صدرها كرصاصات قاتلة واشتعلت حزناً وأنا أرى أدمعها تتدفق كشلال ساخن يكاد يحرق وجنيتها اللتين لم تعرفا مذاق الراحة أو طعم الطمأنينة.. يحدث كل يوم في عالم البشر، لكنه لا يحدث في عالم الحيوان الذي لا حدود فيه للفطرة، لكنه يبقى أرقى من عالم لا حدود فيه للرحمة، إلا أن تكون من الله خالق الناس أجمعين.