ألا لا يجهلن أحدٌ علينا .. فجهل فوق جهل الجاهلينا.
هذا بيتٌ من قصيدة ملحمية للشاعر المعروف عمرو بن كلثوم قالها في سياق حملة التعبئة أثناء ما عُرف بحرب داحس والغبراء بين قبليتي عبس وذبيان.
وفي الحقيقة فإن من يتمعن في أحوال العرب اليوم، يرى أنهم يعيشون في زمن الجاهلية من عصبية قبلية واحتراب وفرقة. وإذا كانت الحرب حينها تخاض بالسيوف والرماح، وتتخذ طابع المبارزة وخسائرها بالمئات، فإنها تخاض اليوم بالصواريخ والدبابات والمدافع، وخسائرها بمئات الآلاف.
من المفترض أن العرب وبعد أكثر من ألف وأربعمائة عام من ظهور الدعوة المحمدية، واعتناق غالبيتهم للإسلام مع استمرار البعض في اعتناق عقائد أخرى كالمسيحية واليهودية واليزيدية والصابئية والبهائية وغيرها، ومقام دولة الخلافة الأولى، ثم تتابع دول الخلافة، فإنهم أضحوا أمةً واحدةً كما جاء في محكم كتابه، «وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً» (البقرة: 143)، أي أمة الاعتدال، بعد أن تجاوزتهم العصبية القبلية «وجعلناكم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم» (الحجرات: 13).
وإذا كانت مسألة التشكيلات الاجتماعية الطبقية والإنسانية معقّدةً جداً لا تبدأ في مرحلة وتنتهي تماماً في أخرى.. وإذا كان مفهوماً أن تبقى ترسبات مرحلة بقيمها وتشكيلاتها الاجتماعية والطبقية، وتظل مستمرة في ظل مرحلة تاريخية جديدة وتشكيلة اجتماعية جديدة، فإن ذلك استثناء لا يبطل القاعدة.
لذا فمن المفترض أن العرب والقوميات والأقليات الأخرى التي تعيش بين ظهرانيهم قد غادروا التشكيلة القبلية، وهي تشكيلةٌ اجتماعيةٌ ترتبط بمرحلة الإنتاج الرعوي والحياة غير المستقرة في الصحراء، وأنهم تخلوا عن العصبية القبلية كرابط بين أبناء القبيلة الواحدة، والتي تميّز قبيلةً عن أخرى.
لكن مسيرة تاريخ العرب، شهدت انتكاسات وارتدادات عن المشروع النهضوي المحمدي في زمن الدعوة الإسلامية؛ وانتكاسات وارتدادات عن مشروع النهضة الذي أطلقه علماء الدين والقوميون المتنورون في بداية القرن العشرين؛ وأخيراً المشروع النهضوي الذي أطلقه القائد القومي الراحل جمال عبدالناصر في الخمسينيات من القرن العشرين رغم قصوره نظرياً وعملياً.
إن نظرةً خاطفةً على التاريخ العربي، تدلنا على بداية هذا التراجع في اجتماع السقيفة بعد وفاة قائد النهضة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، حيث برزت النعرات القديمة، المهاجرون في مقابل الأنصار، وقبائل قريش مقابل القبائل الأضعف.. لكن عودة النزعة القبلية والعصبية القبلية والاستئثار القبلي، قد أضحت نظاماً للدولة مع تعاقب القبائل والعشائر والعائلات الممتدة على السلطة. الأمويون ثم العباسيون، فالفاطميون والأيوبيون، وإلى جانبهم دول تتسع وتنكمش مثل الحمدانيين والمرينيين والمرابطين. بالطبع لم تكن السلطة الحاكمة بيد عشيرة أو قبيلة واحدة، لكن مركز السلطة هو بيد قبيلة أو عشيرة أو عائلة ممتدة.. وبعدها دخلنا في مرحلة الدولة العثمانية التي أنهت الحكم العربي على امتداد غالبية الأرض العربية من المغرب حتى العراق، مع وجود جيوب خارجة عن سيطرتها مثل اليمن وعمان وقلب الجزيرة العربية.. وأخيراً أتت المرحلة الاستعمارية التي مزّقت الوطن العربي إلى كيانات اعتباطية، وبالتالي ضربت في الصميم ما تبقى من نزعة قومية جامعة.
جاءت حركة الوعي المضاد في مشروعين متناقضين، مشروع محمد علي باشا الألباني الذي حكم مصر، لتوحيد ما حول مصر وإلحاقة بمصر المركز، وهكذا كانت حروبه ضد الدولة العثمانية في بلاد الشام الكبرى، وحربه ضد الحكم السعودي في الجزيرة العربية، وهو بذلك مشروع توحيدي ولكن تسلطي.. لكن بريطانيا الاستعمارية، القوة الأعظم حينها، أجهضت مشروعه وحجّمته لينكفئ على مصر مع وضع قيود عليه في السيادة والتسلح.
*كاتب وناشط سياسي بحريني
عبدالنبي العكري
العصبية القبلية.. جامعنا ومفرقنا 1528