المدن، تلك المعامل الكبيرة في مشافي الحياة، فيها تعيش مجاميع الناس الباحثة عن لون آخر ومذاق آخر ونكهة أخرى لا تشبه رائحة الحقول الشاسعة والأودية الواسعة والهضاب التي تحمل أطنان الصفاء على ظهرها دون أن يشعر بها أحد.
لا ادري ما الذي يعجب الناس في بنايات عالية وأزقة مترامية بعشوائية العشب ا لبري وأرصفة جمعت كل أشكال اليأس والسخط والقنوط، سحائب من الدخان ملقحة بالجدب، وأرض كساها سواد الإسفلت بالقحط، وبشرٌ قلوبهم خالية من طراوة الغسق وبهاء الشفق، يبحثون عن المجهول في أكوام لانهائية من قوانين لا تقوى على حماية الكلاب والقطط!
امتدت يد المدنية إلى كل شيء جميل فأتت عليه، إختفت مساحات العشب الندي وصفوف عبَّاد الشمس الذي ينتصب ليبقى واقفاً في وجه النور ثم يطأطئ رأسه بعد غروب الشمس أسفاً وحزناً، إنتهت مواويل الشجن الطويله تحت ضوء القمر، لم نعد نرى شهب السماء تحرق شياطين الجان وإنما ألغت مساحة الأمان فينا شهب البنادق التي تقتل البشر.
تلدشت من قلوب الناس تلك الفرحة وفقدوا مذاق البساطة الممزوج بالحذق والنباهة، وتعقدت حتى أصناف الطعام البليد الذي نتناوله محملاً بالسموم لا يدفعنا إلى التهامه إلا الجوع وقلة الوعي واللآمبالاه. طعام المدينة فقير إلى الصحة، هزيل من العافية، هش، تماماً كما هي عظام أهل المدينة تعاني الهشاشة والضعف وسرعة الإنكسار.
أين نحن من رائحة الخبز البلدي الذي ينضج على مواقد الحطب؟! هل نستطيع أن نسمي أرغفة الخبز المستديره أو المستطيلة على موائد المدينة خبزاً؟!... إنها مجرد شائعة! لأنها مصنوعة من ثنائي عدو للصحة، الدقيق الأبيض والسكر المكرران حتى زوال الفائده منها، هذا إذا لم تحتوي أقراص الرغيف ولفائف (الروتي) على مواد مسحنة يجعل الأمر على مناعة الإنسان أكثر صعوبة.
ما الجميل في أنواع لا حصر لها من الحلوى والمشروبات المصنعة؟! وهل هناك ألذ من مذاق اللبن الطازج من ضروع الأغنام والأبقار الراعية في
أحضان الأودية وقمم الجبال المدنية أفسدت طعم عود الأراك اللذيذ واختزلت حلول مشاكل الأسنان في أمبوب قبيح تفسد صناعته يوماً بعد يوم، كل شيء فيها من صنع البشر، وهل بلغ البشر حد الكمال؟! أين نحن من مذاق القهوه الشعبية ونكهة البلح المجفف؟!... إيهما اجمل إذاً لقمة الجوع التي تتلوها الصحة أم مائدة الشبع التي تتبعها أصناف السموم؟! أصوات الديكه على أسوار المنازل أم الضجيج المتوحش في أبواق الشاحنات وحناجر البشر الباحثة عن منفى جديد؟!... أين نحن من ذلك المساء الهادئ والصمت الهادر والنجوم المعلقة على صدر السماء؟! في المدينة لا نرى النجوم ولا نبصر القمر، وكل الذي نعرفه طوابير لا حصر لها من أكوام اللحم البشري الذي يبحث عن أدنى مقومات العيش وابهت أسباب السعادة.
ألطاف الأهدل
أين نحن من الطبيعة؟! 1496