في تعز وتحت تربة مجتمع خصب تتعانق جذور الثقافة اليمنية من أقصى الوطن إلى أقصاه في أروع لوحة حضارية رسمتها يد التاريخ العتيق على صدر الجغرافيا منذ فجر المدنية وحتى وصلت القافلة إلى أبواب المعاصرة، فالنخب الإنسانية التي اعتلت هرمها السكاني لم تكن نخباً سياسية فقط، كما أنها لم تكن نخباً رأسمالية أيضاً، فنحن في تعز نعيش في بوتقة إنسانية مميزة فكرياً ولديها مقوماتها الفنية والأدبية الراقية التي منحت أنماطها الثقافية ألقاً خاصاً، لدينا في تعز باقة إنسانية ضمت عروقاً محلية مختلفة صنعتها رياح الحضارات المتوالية على تعز خلال حقبات تاريخية ماضية. تلك الحضارات بثقافاتها المختلفة وأنماطها المتفاوتة وقوامها البشري المنسكب من أباريق الشموخ والإباء والبناء والفن الأصيل، هي من جعلت تعز اليوم عاصمة للثقافة اليمنية بكل ما تحمله جُملة الوصل من فكر خصب وخيال لذيذ وقدرة على استيحاء التفاصيل المتوهجة من حنايا الذاكرة المترفة بالجمال، فتعز شاهد من شواهد التاريخ الثقافي بقلعتها التي لم ينحن ظهرها وهي تقف على خاصرة (صبر) تحتضن ليلها وتودع نهارها كل يوم بشوق المحب ولهفة المحروم دون أن تمل الإنطراح على اعتبا الوله، هي كذلك بمحاريبها المعتقة في قمقم التراث البديع، فسقف الأشرفية وقبة المظفر وزوايا المدينة القديمة لوحات فنية صنعتها يد إنسان عشق المدينة المتدلية من قمم الجبال، المنسكبة على ضفاف الوديان، واستشرت مزاياها في روحه كاستشراء الحمى في جسد المريض حتى أضحت ألما لذيذاً يحتمل سياطه اللاسعة بلا أنين.
وحين نتحدث عن تعز المدينة فإن من العدل أن نتحدث عن تعز المحافظة التي استرخت على شاطئ البحر الأحمر منذ الأزل عبر مينائها الذهبي ( ميناء المخا) الذي كان كوب القهوة العالمي قبل أن تنتشر السياسة كوباء لعين وقبل أن يكون للقات على أراضينا سلطة المستوطن تعز المحافظة التي أمسكت بتلابيب القارة الآسيوية لتستشرف القارة السوداء في حلقة وصول مائية ترتبط من خلاله قارتا البيض والسود بأهم ممر مائي يمني على وجه الساحل الأحمر وكأن تعز ساعة أصيل أرجواني بين نهار آسيوي وليل أفريقي!
تعز، حاضرة الجنوب الغربي من وطننا الحبيب لعبت أدواراً تاريخية مشرفة منذ صدر الإسلام حين إستقبله مبعوث النبي الأمين إلى اليمن ( معاذ ابن جبل) معلنة عن قيام نهضة إسلامية راقية يقرأها المحللون اليوم في مشهد جامع الجند الذي انطلقت منه دروس الدين الحنيف إلى اليمن كافة، لذا فإن تعز قبل أن تكون عاصمة لدول يمنية غابرة كانت أيضاً عاصمة إسلامية لدولة الدين القيم الذي جاء به خاتم النبيين والمرسلين صلى الله عليه وسلم.
ورغم هذا الزخم التاريخي الذي لم يكن بعيداً عن زخم جغرافي آخر تتسع مساحاته كلما انتصبت آساده الضارية في صراعات قبلية بين دولة وأخرى مررن على ضريح الحضارة مرور الكرام إلا أن تعز بقيت كما عرفها الناس منذ القدم صدر اليمن الرحب ومجلسها المضياف، ففيها ثلة من عروق تركية وهندية وحبشية وسواها قليل من عروق أخرى لم تعرف اليمني لكنها عرفت تعز، محطة الوقود الثقافي.
وبعد، فإن الاختيار المحنك لتعز كعاصمة للثقافة اليمنية لم يأت من فراغ وإنما كان مبنياً على خلفية تاريخية وجغرافية ثرية بالجمال الإنساني والطبيعي، ويكفي أن تعلم قارئي الكريم أنك في تعز فقط قد تعيش فصول العام الأربعة في يوم واحد! لأن لتعز مزاجاً جوياً مختلفاً عن مزاجها السياسي أو التاريخي أو الصناعي، وهي مع هذا أم السياسة وبنت التاريخ وربة الصناعات والحرف المتنوعة، ومن العدل أن نشير إلى أن بيوت التجارة في اليمن يعود أصلها إلى تعز الجز، عاصمة الجود، صاحبة الكأس المرهف بالعطايا التي لا تشبه إلا عطايا الملوك، تعز عاصمة المدد التي تصدر عقولها البشرية المبدعة إلى كافة أنحاء اليمن وربما إلى كافة أنحاء الدنيا أيضاً.
إنها عاصمة البركان الفكري الذي لم تستطع عصا الأيام أن تجعله خاملاً مساحة لارأي التي لم تفتأ أن تبقي سارية الوطن شامخة رغم اختلاف الرؤى في بعض منعطفاتها، إكليل اليمن الذي أورق شموخاً وكبرياء.
إن اختيار تعز عاصمة للثقافة اليمنية يتطلب أن تكون آثارها التاريخية محميات أثرية لا تصل إليها يد العنف أو التخريب أو التجارة المحرمة مع أرباب السرقات التاريخية الذين ينقلون فسيفساء الشعوب النائمة إلى أوطان شعوبها لا تغفوا وحكوماتها لا تنام!
ينبغي وقبل أن نبدأ بفتح أبواب تعز كعاصمة ثقافية أن تسخر إمكاناتنا الفكرية لتغيير قناعات اجتماعية متراكمة حول الثقافة لتعز منذ أن كانت معبراً مفتوحاً وحتى أصبحت محطة ديناميكية للإشعاع الثقافي اليمني، لذا فإن وجود مسرح وصالون أدبي ودور نشر مهمته بالإنتاج الفكري للمثقف اليمني قد يكون احد عوامل التغيير الاجتماعي للنهوض بمستوى المفردة الثقافية ومنح أصحابها أوسمة استحقاق إبداعية تخلو إنجازات المثقف وتقدمه للمجتمع في أيقونة جديدة تواكب مسار الحضارة في كافة أشكالها التقليدية والحديثة.
من الإنصاف اليوم الحديث عن إلغاء عقد الزواج الباطل بين المثقف والسياسية، خاصة بعد أن ارتدت السياسة ثوباً فضفاضاً وبقيت الثقافة عارية حتى من أطمارها البالية!
إن تغيير النظرة إلى المثقف ووجود العقلية التي تستوعب مناخاته الإبداعية هو ما سيجعل من تعز عاصمة للثقافة العالمية إذ لا مفر من الاعتراف بوجود النخبة المبدعة والفكر المترف بالقيم الإنسانية وصور الانتماء الوطني، نريد أن تدخل التاريخ الثقافي من أوسع أبوابه دون أن نضطر للانسحاب من بابه الخلفي خلسة ودون سابق إنذرا.
تعز مسئوليتي
ألطاف الأهدل
تعز، قبلة على خد اليمن 1600