في الحياة الكثير من المتناقضات التي خُلقت يوم خُلق هذا الكون بأجنحته السابحة في الفضاء البعيد والقريب، فضاء نعرفه وآخر نجهله، تلك المتناقضات لا تظهر إلا في غياب أضدادها، فلكل نقيض ضد لا ينفي حضوره وإنما يثبت وجوده، وبين معادلة النفي والإثبات تلك تسير موجة الأحداث القادمة من رحم الأُفق الخفي الذي يبدأ بغدٍ ولا ينتهي بأمس!.. الليل والنهار، الصحة والمرض، الفقر والغنى, الأمن والخوف.. نعم، الأمن الذي لم نفتقده إلا عندما عرفنا معنى الخوف وشعرنا به يلتهم مساحات الطمأنينة فينا حتى استرخت مفاصل أجسادنا واستكانت نائمة على فراش الحذر منذ أن انفرط عقد السياسة في الوطن وأضحى الأمر بين يدي قرار نقبله وآخر نرفضه.
الخوف، كهف الفشل، بيت الإخفاقات المتتالية، وهو مبضع الجراح الفاشل الذي أراد أن يستأصل المرض فانتزع العافية.. هو مقصلة الإبداع والتميز والظهور، وهو مشنقة الأبرياء الذين أرادو الحياة فلم يجدوا إلا الموت.
خلال عامٍ كاملٍ مر على صدر الوطن جرعنا جميعاً رشفة الخوف من كأس تلك العاصفة التي أتت على أخضر أمنياتنا ويابسها, فجعلتها هباءً منوراً، لولا أن أحاطتنا رعاية الله ورحمته فعادت الحكمة إلى موطنها وعاد الإيمان إلى صدور أهله, وهنا فقط التقطنا أنفاسنا واستطعنا الوقوف من جديد بعد هفوة إنسانية وكبوة تاريخية لن نستطيع أن نخفي آثارها بألوان الدنيا ومساحيقها الزائفة.
هناك ويوم علا صوت العنف واستُل (بضم التاء) سيف الباطل, عرفنا أن لا بناء في ظل الخوف ولا رفاهية في وجود الجوع ولا حضارة يمكن أن تصنعها يدٌ راجفةٌ وعقلٌ مريض، وعرفنا أيضاً أنه حين تندلع نيران الذُعر وتتعالى ألسنة الاستغاثة يصعبُ على عالمٍ بأسره أن يطفئ تلك النيران أو يخمد جذوتها النائمة تحت أجساد البشر..
لذا نقول بأن للاستقرار الأمني في أي مجتمعٍ كان أهمية إنسانية فضلى, لأنه أساس لكل قيمة تنموية وضرورة لكل مبدأ نهضوي، بل إنه قوة جاذبة للاستثمار من خارج الوطن أو داخله، علاوة على أن الأمن الاجتماعي مظلة تترعرع دونها بذور الإبداع والنماء وتثمر بين أفيائها براعم الانتماء والولاء، وعلى مساحة سلام وتصالح شاسعة يمكن أن يصبح تراب الأرض تبراً وسماؤها لجيناً متراكماً يمطر عقيقاً وزمرداً يرصع نحر الوطن بالبهاء والجمال والسناء.
إن مفهوم السلم الاجتماعي لا يمكن أن يتحقق في مثل تلك الأجواء التي يشهدها الوطن اليوم، فالعنف وحمل السلاح والتربص خلف ثكنات المصالح المتهالكة ومحاولة نكئ الجراح والعبث بإنسانية الشعب بعضه ببعض، كل ذلك من شأنه أن يحول دون وضع ركائز الاستقرار واستثمار موارد الوطن الطبيعية والبشرية والاستفادة من يد العون التي وإن وضعت مصالحها في اليمن موضع الرأس من الجسد, إلا أنها تقدم لليمن أيضاً فرصة الظهور على مسرح الاقتصاد العالمي وإن كان الأمر يسير وفق خطى وئيدة, إلا أن قافلة الحضارة لابد وأن تصل..
في تعز يبدو الأمر صعباً، فحين نتحدث عن سلم اجتماعي وأمن إنساني نكون قد وضعنا جملة اعتراضية على صحيفة الواقع التعزي الذي تئن جنباته من قضايا العنف والقتل العمد والانقلاب الأخلاقي الذي جاء كنتيجة لانفلات أمني منقطع النظير.. كل ذلك أصبح يشكل مقالاً متكاملاً لمقامٍ تعزي لا يخفى على الجميع استقراء مشاهده المتتالية يوماً بعد يوم ودون توقف.. مظاهر العنف والتسلح التي تعانيها محافظة الثقافة والمثقفين هذه ستغلق باب السياحة على من كان يرى في تعز قبلة الآثار اليمنية وكتاب تاريخها العسجدي، كما أن انتشار فلسفة السلاح سيؤدي إلى بقائها كثقافة متناولة لا تخضع لقيود اجتماعية، خاصة بعد أن اندثرت بعض أعراف المجتمع تحت انقاض السياسة المتعطشة للإقصاء والتهميش من قبل أربابها خارج الوطن ومن تأثر بها في الداخل رغبة أو رهبة!..
وفي وطن تفوق فيه قطع السلاح عدد البشر من المستحيل التكهن بغدٍ يصدح فيه صوت العقل بترنيمة سلام يمانية ترقص لها القوانين والعادات والتقاليد والثقافة السائدة رقصة الولاء والطاعة.. غير أنه ليس من المستحيل أن نفعل ذلك من هنا، من تعز، نكهة الذوق الثقافي وطبق الحلو الشعبي وقطعة السكر التي جعلت علقم الحياة شهداً، فلسفة التعايش بين الأجناس تفقد ألقها إذا وقف العنف أمامها كحائط فولاذي ترتطم على سحطه إرادة أفواج بشرية فقدت أبصارها لكنها لم تفقد بصيرتها.. لذا نتحدث عن الحوار وحرية التواصل والاتصال واحترام الفكر وعدم الإقصاء والتهميش، إنها رؤيتنا في تعز هي هدفنا أيضاً ومنها ندعو إلى الإبقاء على الثوابت الوطنية التي لا يمكن أن تنتزع جذورها عواصف الفتنة والاقتتال، ولأننا في تعز نؤمن أن لوحة المجتمع الراقي لا يمكن أن ترسمها إلا يد شعب متحضر ومجتمع متمدن وإنسان يؤمن بالقانون روحاً ونصاً, بالمقارنة مع مجتمعات أخرى ترى في القانون مجرد رحى أمام شعب من الحبّ!.
حين ينعدم الأمن الاجتماعي تصبح كل مؤسسات المجتمع مشلولة تماماً وهذا يقص الشريط لبيئة خصبة بالانفلات السلوكي والأخلاقي والجريمة المنظمة التي تترعرع في غياب الرقابة وتتربى في غُربة القانون، لكن في ظل سيادة القانون ووجود العدالة الإنسانية والمساواة بين أبناء الشعب يمكن أن يتحول رغيف الخبز الساخن إلى واقع مُعاش بدلاً من أن يبقى حلماً معلقاً على أكتاف الكبار لا يناله إلا من يجيد القفز على الحواجز!..
وحتى لا تغدو شموع المدينة الحالمة مثل قناديل مُطفأة وأرصفتها الباهية حلبات للاقتتال بين أبرياء من الموت ومتهمين بالحياة، حتى لا تغدو تعز مجتمعاً بشرياً مستأسداً يحكمها قانون الغاب ويعتقد كل إنسان فيها أن عليه أن يزأر ليعيش.. حتى لا يحدث ذلك نحن نكتب ونخطب ونقودُ ثورة حرفية يانعة بالحب والسلم والتعايش والحبور؛ فتعز مسؤولية الجميع.
*تعز مسئوليتي
ألطاف الأهدل
العنف.. مقصلة الإبداع والنماء 1508