منذ الصغر ونحن نعشق صوت الأجراس تماماً كما نعشق أصواتاً أخرى, كل ما يعجبنا فيها أنها تثير في أنفسنا مكامن الفرح وتربط أحاسيسنا النائمة في الأعماق بواقع جميل قد تراهُ أعيننا فقط وتعجز عن إدراكه حواسنا الأخرى.. صوت الطيور عند الفجر، صوت المطر، الطبول في الأفراح، المفرقعات التي تعلن الغد عيداً، وأجراس لم يعد لها صوت..
تلك الأجراس اعتدت على سماعها في ساحة المدرسة قبل ثلاثين عاماً من اليوم حين كانت صوتاً مقدساً نحترمه كما نحترم صوت الوالدين ونبرة المعلم وسواها من أصوات تقرع أبواب قلوبنا قبل أن تقرع شبابيك أسماعنا، رحلت تلك الأصوات بعيداً وحل محلها ألوان الدخان والتلوث والفوضى، أصوات اليوم لا تشبه أصوات الأمس ولا تلامس أوتارها الناعمة.. لا وجود اليوم لذلك الشغف الذي كان يملأ قلوبنا، ولا ندري هل كنا صغاراً بحجم الدهشة حتى نرى كل شيء أو صوت أو لون أكبر من حجمنا بكثير، أم أن حياة اليوم لم يعد لها ذلك المذاق الطيب بالأمس؟..
ليست وحدها أجراس المعلمات من نامت في قبور الأيام بلا رجعة، فأصوات كثيرة كنا نراها أجراساً توقظ كل حواسنا حتى ما كان منها مختبئاً بين بطائن أرواحنا، صوت الأذان وذلك الدفء الذي تبعثه في قلوبنا نبرة المؤذن، ذلك الأمان الذي كان يكسونا حين نسمع آيات القرآن في ساعات الصباح الأولى على شريط المذياع المدرسي، أناشيدنا الوطنية والقومية التي تضخ مشاعر الحماس والوطنية والحمية في داخلنا رغماً عنا، أصوات الباعة البُسطاء في زقاق الحارات.. كلها أجراس غفت كما يغفو الأموات في قبورهم بعد حشرجة قاتلة.. ربما اختنقت حناجر تلك الأجراس وغصت حلوقها تماماً كما غصت حلوقنا بنبرة الحق ثم اختنقنا بها دون أن نهتز أو نخاف، كل نبرة كانت جرساً يشق طريقه إلينا دون عوائق تذكر.
اليوم لا تهز أسماع الناس إلا أصوات المدافع وآليات العنف والدمار, اليوم لا يأبه الناس لأصوات الحق التي توقظ الضمائر وتحيي النفوس وتهز قلاع القلوب الثقيلة، اليوم يدمن الناس الفوضى ويستمتعون بالضجيج ولا يجدون حرجاً في أن يديروا ظهورهم لأجراس المساجد وذلك الأمن الذي تشيعه كلماتها, اليوم صوت المعلمة أو المعلم لم يعد جرساً يعلم الخير والعدل والانضباط، صوت الوالدين ما عاد هو ذلك الجرس المقدس الذي لا يتكرر في حياة المرء منا مرتين.
ألطاف الأهدل
أجراس نائمة 1506