تلك الشعرة التي بقيت بين كفتي الأخذ والعطاء في أرقى صوره للحوار السياسي بين الحاكم والمحكوم، شعرة معاوية بحدَة السيف ودقَة خط الأفق وقوة خط الزمن الذي يحمل تاريخ البشر على ظهره بلا كللٍ أو ملل.. شعرةُ استطاعت أن تربط ميثاق الشرف السياسي بين الراعي والرعية في وثيقة عدل يقرأها الحاكم كل يوم، كما يقرأ فاتحة الكتاب في كل ركعة إن كان ممن يركع ويسجد!.. فأين هي اليوم معالم تلك الشجرة؟, هل انقطعت, أم أنها مرسومة بخبرٍ سري حتى لا يراها الشعب ولا تلمسها الرعية؟..
على أرض الواقع لا وجود لشعرة معاوية, لأنه لم يعد هناك وجود لأبجدية الحوار بين طرفين لا يمكن أن يكون لأحدهما وجود دون الآخر, هل يمكن أن يكون للشعب وجود دون دولة تحميه وترعى مصالحه وتنظم شئون حياته؟, أو هل يمكن أن يكون للدولة كيان دون وجود شعب يجعل لوجودها معنى ولسياساتها غاية؟..
وحتى يكون لتلك الشعرة أثر في وقتنا الحاضر يجب أن نعيد النظر في نوع وحجم العلاقة التي تربط قمة الهرم البشري بقاعدته وفق خواص الحكم, وهذا لن يكلف الكثير من الوقت والجهد إذا توفرت نية تطبيق الإسلام على نظام الحكم والتشريعات المنظمة لعلاقات الناس ضمن هذا المنظور المعتدل الذي تحدث عنه القرآن الكريم والسنة النبوية بشكل تفصيلي مختلف عن القانون الموضوع الذي جاء مستوحى من ثقافة مجتمعات مغايرة.
شعرة معاوية يمكن أن تعود إن عاد إلى الوجود طرفان قويان يمثلان رمزين ديناميكيين لفلسفة الحكم الرشيد الذي جاء في إرثنا الإسلامي الحنيف والذي قد يشبه ذلك الرُشد الذي يتحدث عنه من لا يعرفه، لكنها عُقدة العرب التي تمجَد كل مستورد وتستخف بكل ذي عقلٍ وحكمة لا ينشد إلا مصلحة الوطن.
ستكون تلك الشعرة أقوى لو أنها نسجت بأيدي الجميع، راعٍ ورعية، حاكم ومحكوم، رئيس وشعب.. ننسجها بأيدينا, ثم نكون فريقين متوائمين فكراً ومنطقاً وإرادة، يحكم الرئيس بالعدل ولو على نفسه، وتستجيب الرعية طاعةً وأدباً, إلا أن كان في الأمر معصية للخالق.
وفي حقيقة الأمر لا يحكم رؤساء وأمراء وملوك اليوم بمعصية الخالق, لكنهم يهيئون شعوبهم لتكون عاصية للخالق, وبكل ما أوتيت من قوة.. نستطيع أن نمسك بتلك الشعرة لو أننا فقط رأيناها واضحة ولمسنا من حكامنا براعة الإمساك بها والإحساس بالمسؤولية أمامها، لأنها حين تنقطع تصبح الإرادة هشة في نفوس الناس والإدارة أكثر هشاشة في نفس الحاكم.. إنها محور الارتكاز الذي يمسك بكفتي الميزان البشري في منتصفه تماماً, فلا يميل حاكم ولا محكوم.. حتى تعود شعرة معاوية يجب أن نعود نحن، بل يجب أن يعود إحساسنا بالعدل قبل كل شيء.
ألطاف الأهدل
شعرة معاوية.. 1544