في وطن تنام فيه الحِرَف في أوكارها وتتعالى فيه أصوات البطالة كل يوم، كان لا بد أن تظهر حرف رخيصة ووضيعة ولا تحمل أي أسس أو قيم أخلاقية شأنها شأن أي حرفة أو مهنة في هذا العالم..
من تلك الحرف التي انتشرت بفعل توسع مساحة الفقر المادي والأخلاقي، التسول، الحرفة التي تهدر ماء الوجه أكثر مما تستهلك صحة الجسد, بالإضافة إلى ما تخلفه من أضرار نفسية سلبية تخص الذات وما تعانيه من الدونية والإستفال..
ومع هذا فالأمر عند البعض لا يختلف عن الانتظام في صف الوظيفة المدنية أو الحكومية، لأنه يستيقظ كل صباح ليلتحق بعشرات وربما مئات المتسولين في كل مكان، والمسألة كما أسلفت لا تخص أصحاب القرار السياسي أو الوضع الإقتصادي الصعب الذي يشهده عالم الثروات المحترمة اليوم، بل إن الأمر يتعلق أيضاً وبدرجة أساسية بمفهوم الكسب والرزق والعمل, وأسباب أخرى تتعلق بمسألة الحياء وضعف الدين من قوته.
والحقيقة أن المشكلة ليست فيمن اعتاد التسول جهاراً نهاراً وعرفه الناس كمتسول، وإنما فيمن يتسول بطريقة مدبرة أو من تحت الطاولة كما يقال، إنه التسول المشروع من وجهة نظر هؤلاء، فطالما وهو لا يمد يده ولا يطلب المال بشكل مباشر، إذاً فهولا يمتهن التسول.. غير أنه في حقيقة الأمر يفعل ما هو أسوأ من التسول، إنه يمتهن الابتزاز الذي يمتنع فيه عن تقديم خدمة (يفترض أنها مجانية) إلا بمقابل مبلغ من المال، أو ليس هذا تسولاً؟.. هناك تسول أيضاً يحمل بصمة الطبقة الراقية، مدراء مثلاً أو وزراء.. يستولي هؤلاء على مخصصات مكتبية أو وظيفية تحت شعار الأولوية، لكنهم لا يتجاهلون الحاشية التي تدعم وجودهم, ولهذا هي تحظى ببعض الفتات البسيط وتلتهمه قانعةً خاضعة.
الكثير من الناس يتسول، لكن كلَ بطريقته، فمنهم من يمد يده، ومنهم من يكتفي بفتح درج مكتبه، ومنهم من يحصل على حصته من التسول رسمياً وعبر محاصصة رخيصة بينه وبين مستفيدين آخرين..
وما دام هذا هو حالنا فكيف سينهض هذا الوطن من كبوةٍ كادت تودي به إلى الهوية؟!.. ليس الفقر والحاجة والجوع وحدها أسباب للتسول، لأن من أصحاب اليد العُليا من يتسول أيضاً، وإنما تتجذر أسباب التسول لتطال العمق الديني والنفسي والعرقي لدى من يفتعل هذا السلوك المهين.
ولإصلاح الأمر قد نحتاج لعقود طويلة من الزمن حتى تأتي الحكومة التي تضرب على يد المسيء وتكافئ المصلح، كما أننا سننتظر أن يكون هناك خطط جيدة لاستغلال الثروة البشرية وتحسين المستوى المعيشي للناس والاستفادة من الثروات الطبيعية المهدرة الاستفادة المثلى.. إنها عقود طويلة من الزمن قد لا يلمح مظاهرها إلا أجيال قادمة تأتي بعدنا.
ألطاف الأهدل
التسول ظاهرة أم حرفة؟! 1466