شهدت مؤخراً منطقة دماج بمحافظة صعدة شمال اليمن قتالا ضاريا بين مجاميع سلفية وأخرى حوثية إثر حصار خانق للبلدة منذ أشهر من قبل جماعة الحوثي "الشيعية" المتمردة، التي تسيطر على محافظة صعدة اليمنية منذ عامين، أي منذ قيام ثورة 11 فبراير/شباط 2011 السلمية وحتى اللحظة.
تداعيات القتال وخلفياته التاريخية وحدود تأثيراته الراهنة وانعكاساته المستقبلية على سير مؤتمر الحوار الوطني والدولة اليمنية عموما، وحدود التأثير الخارجي في مثل هذه الحروب المكتسية أثوابا طائفية، وعلاقة كل ذلك بمتغيرات المشهد الدولي الراهن، كل هذا وغيره ما سنسلط عليه الضوء هنا لاستجلاء بعض زوايا الموضوع.
وكغيرها من بلاد الإسلام مثلت اليمن ساحة صراع سياسي تاريخي مرير على مدى قرون مضت منذ قدوم مؤسس الزيدية الهادوية في اليمن الهادي يحيي بن الحسين الرسي عام 284 هجرية، قادما من جبال الرس الحجازية بعد فشله في تحقيق حلم دولة الهادوية في طبرستان والديلم التي كان قد سبقه إليها ابن عمه الناصر الأطروش.
قدم الهادي إلى صعدة اليمنية طامعا في تأسيس حكم سلالته الهاشمية على غرار دولة العباسيين والأمويين، ذلك الحكم الذي تحول بعد ذلك إلى عقيدة دينية صارمة، تحت مسمى "إمامة البطنين" أي الحق الإلهي في الحكم والعمل لذرية الحسن والحسين ولديْ علي بن أبي طالب من فاطمة الزهراء، الذي يعتبر الهادي نفسه وذريته من بعده وريثهما.
وتحولت هذه النظرية السياسية الهادوية للحكم إلى عقيدة دينية صلبة لدى ما بات يعرف بالمذهب الهادوي الزيدي الذي تلاشى من بلاد الديلم وطبرستان في القرن الثالث الهجري وانحصر منعزلا على هضبة شمال الشمال اليمنية ما يقارب أحد عشر قرنا من الزمان لا يلبث أن يمتد خارج صعدة ليعود إليها مجددا.
وهكذا أصبحت صعدة اليمنية كجغرافيا حصنا أو كرسيا للمذهب الهادوي في اليمن على مدى قرون من الزمن، حتى في ظل ما بات يعرف بالنظام الجمهوري الذي قوض حكم الإمامة الزيدية عن اليمن بثورة 26 سبتمبر/أيلول 1962.
بيد أن حكَّام النظام الجمهوري وخاصة نظام الرئيس السابق علي عبد الله صالح قد فشلوا جميعا في تقديم البديل الأفضل للعهد الإمامي الكهنوتي تنموياً في صعدة كغيرها من بلاد اليمن، وسعيه لتوريث الحكم لأسرته، وهو ما شجع بقايا الإمامة ممثلةً بـ"الحوثية" للتفكير مجددا بالخروج مطالبة بأحقيتها العقائدية بالحكم مجددا بدءا بحرب صعدة الأولى في 2004 وليس انتهاء بممارستها العنيفة حاليا في دماج وبقية المناطق.
ولا يعني هذا أن بقاء صعدة زيدية أنها كانت حكرا على الزيدية دون غيرها، فقد شكل العمل التنظيمي الإخواني على مدى عقود ما بعد ثورة سبتمبر/أيلول 1962 في سبعينيات وثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي أيضاً حضوراً بارزاً بأشكال وطرق شتى كالمعاهد العلمية والمدارس النظامية الحكومية بعد ذلك.
ويأتي في هذا السياق حديث الغدير الذي تتخذ منه الهادوية دليلاً كافياً لأحقيتها بالحكم، والذي تحدث فيه الرسول (صلى الله عليه وسلم) -حسب تأويلاتهم- عن ولاية الإمام علي بن أبي طالب وذريته، أي "الهاشميين"، على المسلمين حتى قيام الساعة.
وقد شكل هذا المنطق الثيوقراطي للهادوية واحداً من أكبر مصادر المأساة والملهاة معا في تاريخ اليمنيين، حيث مثلت الحقبة الهادوية واحدة من أكثر صفحات التاريخ اليمني دموية، وفتحت نظرية البطنين بتأويلاتها المختلفة الباب واسعاً أمام صراعات وحروب الهاشميين الطاحنة، التي كان يرى فيها كل واحد منهم أحقيته في الإمامة دون غيره، وكان اليمنيون وقودها وضحاياها معاً.
وقد شكلت تلك الحروب مأساة تاريخية مروعة، حولت اليمن من بلاد العرب السعيدة قبل الإسلام، إلى بلاد العرب الشقية بعد الإسلام طوال حكم الإمامة الهادوية، التي كانت بمثابة فيروس تدمير للحضارة اليمنية التي مثلتها دول عريقة في التاريخ اليمني كدولة سبأ وحمير ومعين وقتبان وأوسان وغيرها من الحضارات التي أعاد بعضها الرسوليون والصليحيون والطاهريون.
وبسبب ذلك الإرث التاريخي الموهوم، والمعتقد المقدس، تفجرت سلسلة حروب صعدة العبثية بدءا بالحرب الأولى عام 2004 التي فجرها مؤسس الجماعة حسين بدر الدين الحوثي، والتي انتهت بمقتله في 10 سبتمبر/أيلول 2004 على يد القوات الحكومية.
وهكذا توالت سلسلة حروب صعدة الست التي كانت تشتعل وتنتهي في ظروف غامضة، خلفت وراءها آلاف القتلى وعشرات آلاف الجرحى وما يقارب من ثلاثمائة ألف نازح ناهيك عن دمار شامل للممتلكات من بيوت ومزارع وغيرها.
ومثلت تلك الحروب الست استنزافاً كبيراً لمقدرات الدولة المختلفة المالية والعسكرية والبشرية، عدا كارثيتها المتمثلة في كونها حروبا كانت تستخدم كأوراق سياسية بين مراكز القوة والنفوذ في السلطة لتحجيم كل طرف للآخر سعى فيها الرئيس السابق لتحجيم قائده العسكري الأبرز علي محسن صالح.
وهو ما ساهم بشكل كبير في حسم جولة الحرب الأخيرة لغير صالح سيادة الدولة، مما شجع الحوثي في تماديه بالسيطرة على المحافظة وفرض نظام خاص لإدارة صعدة، وتمت إعادة تعيين كل كوادر أجهزتها من المحافظ حتى أبسط موظف.
وبسيطرة الحوثيين على صعدة بُعيد انفجار ثورة 11 فبراير/شباط 2011، وما شهدته المنطقة العربية من تحولات كبيرة، بفعل ثورات الربيع العربي، التي نشأت بعدم الحسم النهائي لمصير الأنظمة التي قامت الثورة ضدها ثورات مضادة تسللت من خلالها قوى إقليمية ودولية لتتحكم في سير ثورات الربيع، التي ترى فيها هذه القوى الإقليمية خطراً على مصالحها غير المشروعة.
وهكذا وجدت الحوثية بوصفها جماعة مذهبية المجال أمامها للارتماء في أحضان النظام الإيراني الذي وجد الفرصة مواتية في سعيه الطويل لتصدير الثورة الإسلامية باحتواء كل جماعات الإسلام السياسي الشيعية تحديدا، وتحويلها إلى ورقة سياسية في يده، رغم تباين, بل تناقض الوجهتين الاثني عشرية الإيرانية، والهادوية الحوثية التي كفر إمامها الهادي الاثني عشرية بفتواه الشهيرة.
ورغم الخطاب الكربلائي، الذي ظلت ترفعه جماعة الحوثي بادعائها المظلومية التاريخية والراهنة جراء حروب صعدة، وقولها إنها جماعة مُحاربة بسبب ممارساتها الدينية، فإن خطاب الحوثي الأخير بمناسبة عيد الغدير -يوم 18 ذي الحجة- قد كشف حقيقة هذه الجماعة ومشروعها الإمامي.
يقول زعيمها عبد الملك الحوثي "إنه أحق بالحكم" انطلاقاً من نظريتهم الإمامية، ويؤكد "أن الحكام الحاليين فاشلون ولا يمكن أن يديروا مدرسةً"، في إشارة للرئيس الحالي عبد ربه منصور هادي المنحدر من أسرة غير هاشمية وغير زيدية أيضا.
وبذلك كشف هذا الخطاب حقيقة هذه الجماعة التي تسعى جاهدة إلى إعادة نظامها الإمامي الكهنوتي غير المرحب به يمنيا لتاريخه العنصري الدموي، وكشف مرامي تحركات هذه الجماعة ومناوراتها السياسية التي باتت مكشوفة للجميع وخاصة فيما يتعلق برؤاها المقدمة للحوار الوطني فيما يخص دين الدولة ومصدر دستورها، حيث وقفت موقفا يتعارض ظاهراً مع معتقداتها الثيوقراطية، لتغطي بذلك عن حقيقتها الكهنوتية ليس إلا.
ملاحظة الوادعي لذلك الازدراء من قبل علماء الزيدية الهاشميين له ولأمثاله من أبناء القبائل، لم يكن مجرد صدفة، بل كانت هي التطبيق الطبيعي لنظرية البطنين الجينية الثيوقراطية الصارمة، التي تعلي من شأن سلالة بعينها على حساب الآخرين في تعارض صارخ مع أبسط حقوق الإنسان كالمساواة وتكريم الإنسان بعمله لا بنسبه.
ولهذا غادر الوادعي جامع الهادي, بل صعدة كلها, متوجهاً إلى المملكة العربية السعودية للعمل وطلب العلم، وهناك بدأت تحولات الوادعي العقائدية من زيدي لا يطيق سلالة الهادوية، إلى سلفي تصادم مع حماة السلفية الوهابية وسجن هناك، وغادر المملكة قافلاً باتجاه صعدة ليؤسس دار الحديث بدماج مع بداية ثمانينيات القرن الماضي، والذي سيصبح نواة للسلفية الوهابية اليمنية كلها بعد ذلك بمختلف مدارسها وتوجهاتها.
وهذا ما جعل المراجع الزيدية تنظر لدماج والوادعي تحديدا بنوع من الريبة والتربص ولم يكن يمنعها من أذيته حينها سوى أنها كانت جميعاً تتلقى دعماً مالياً كبيراً من المملكة العربية السعودية، السلفيون وخصومهم الزيدية على حد سواء، عدا حضور بعض مظاهر السلطة الأمنية للدولة اليمنية حينها.
فمحلياً، يستبق الحوثيون بحربهم على دماج مخرجات الحوار الوطني النهائية قبل التوقيع عليها، بفرض سياسة الأمر الواقع بالقوة العسكرية التي تم نهبها من معسكرات الدولة في صعدة، تلك الأسلحة التي كان يفترض اشتراط تسليمها للدولة لقبولهم في الحوار الوطني ومن ثم في العملية السياسية، كما هو العرف الدولي في التعامل مع الجماعات المسلحة والمتمردة في أي مكان من العالم.
وقد أراد الحوثيون بحرب دماج أولاً التخلص من هذه المنطقة السلفية كبالونة اختبار لجاهزيتهم القتالية كرسالة للرئيس هادي وخصومهم أولاً، وقياس ردة الفعل المختلفة ثانياً.. كما أنها باتت مؤشراً خطيراً على التقارب الحوثي السعودي الأخير حيث تتحدث بعض التقارير عن صفقة بين الطرفين يتسلم بموجبها الحوثي شهريا خمسة ملايين ريال سعودي لتنفيذ أجندات ما في الداخل اليمني من بينها زعزعة الوضع وإسقاط حكم هادي.. ورابعاً ترتيب صعدة أمنياً بالتخلص من السلفيين ومن ثم التفرغ لاستكمال مشاريع توسعها العسكري في بقية المحافظات.
أما إقليمياً، فلا يمكن عزل حرب دماج عن ما يجري في المنطقة من ترتيبات استراتيجية كبيرة في تحالفات القوى وإعادة ترتيب المحاور، فيما يعني أن المنطقة برمتها أمام حالة من عدم اليقين السياسي فيما ستؤول إليه الأمور وخاصة فيما يتعلق بالتقارب الأميركي الإيراني.
حيث يرى المراقبون لهذا التقارب أنه ستترتب عليه تحولات كبيرة، وخاصة في المشهدين السوري والعراقي ومن ثم الخليجي تحديدا، والعربي عموما، وهو ما يعني اندفاع بعض القوى المحلية كأوراق سياسية في يد قوى إقليمية لتحقيق المزيد من المكاسب على الأرض للتفاوض عليها بعد ذلك.
أما دولياً، فكل التقارير تشير إلى تحولات المنطقة والعالم نحو تقارب غربي شيعي، عززه تراجع التهديد الأميركي عن ضرب نظام بشار المدعوم إيرانياً ومن ثم إسقاطه ثانياً، عدا الموقف الأميركي المرتبك والمراوغ تجاه الانقلاب العسكري في مصر وإسقاط أول رئيس عربي منتخب ديمقراطياً.
*المصدر: الجزيرة نت