تتناول هذه المقالة موضوع الشباب والثورة المصرية، وتحاول تحديدا الإجابة عن كيف ولماذا تحولت الثورة من الشباب والشعب إلى النخبة؟ وما العمل لاستعادة الشباب والثورة معا؟.
الشباب قبل ثورة يناير
ربما من الأهمية أولاً الإجابة عن سؤال: أين نجح الشباب قبل 25 يناير؟, ولماذا؟, وأين أخفقوا؟.
لا شك أن الشباب نجح قبل الثورة في عدة مواطن، بدأ الشباب تحركهم بالمعرفة، فقد اكتسبوا، بفضل الإنترنت وأدوات التواصل الاجتماعي، معلومات عن أمرين محوريين في هدم نظم الاستبداد، هما انتهاكات حقوق الإنسان في الداخل، وتجارب التغيير غير العنيف في الخارج.
وقد استخدم الشباب هذه المعلومات بشكل جيد إذ نشروا انتهاكات حقوق الإنسان بكل الطرق الإلكترونية الممكنة، كما استخدموا معلوماتهم عن طرق التغيير السلمي في تعبئة الجماهير بطرق غير تقليدية.
كما تحرر الشباب من القيود الحزبية التقليدية بأمراضها المتعددة وخلافاتها التاريخية والأيديولوجية، وتميزوا بقدر من السيولة التنظيمية واللامركزية.
والأهم من كل ما سبق هو تحركهم على أساس الحد الأدنى المشترك (رفض الاستبداد والقهر والتعذيب والمناداة بالحرية والانعتاق)، مع رفضهم الترقيع والحلول الجزئية، حتى وصلت مطالبهم إلى "رحيل النظام".
وبالإجمال، نجح الشباب في قيادة الشارع وتحفيز الشعب بفئاته المختلفة إلى النزول بالملايين وإسقاط رأس النظام وهذه إنجازات لم تنجح في تحقيقها النخب والقوى التقليدية منذ عقود.
لكن الشباب أخفقوا في عدة أمور، فهم لم يهتموا كثيرا بالشق الفكري أو ببلورة مشروع سياسي محدد المعالم، كما لم تظهر لهم قيادة تعبر عنهم وتقودهم.
ربما فاجأهم إسقاط النظام بسرعة قبل أن يُحضّروا أنفسهم بالبديل السياسي وبمهارات عملية البناء والتأسيس.
وقد سارت الأحداث بعد 11 فبراير/شباط 2011 بالشباب وبالثورة إلى اتجاهات غير محمودة، فتحولت الثورة من الشباب إلى النخب. فكيف حدث هذا؟ ولماذا؟
الشباب بعد ثورة يناير وقبل 30 يونيو:
واقع الأمر أنه بمجرد سقوط رأس النظام تسلّم الجيش ومعه النخب والأحزاب مهمة إدارة المرحلة الانتقالية بدون مشاركة حقيقية من الشباب.
كان أمل الشباب هو أن تستجيب هذه النخب والأحزاب والجيش لمطالب الثورة في تحقيق ثلاثة مطالب على الأقل: بناء نظام سياسي يغير نمط ممارسة السلطة، ويُمكّن الشباب وكافة الطبقات المحرومة سياسيا من المشاركة في ممارسة السلطة بآليات ومؤسسات فعالة، القصاص ومحاكمة قتلة الثوار. وكان عددهم آنذاك أقل من ألف شهيد وشهيدة، العدالة الاجتماعية والشروع في برنامج حقيقي لتخفيف الأعباء الاقتصادية والاجتماعية عن الغالبية العظمى من المصريين.
بالطبع لم تنجح المرحلة الانتقالية في تحقيق هذه المطالب، بل وراحت النخب والقوى التقليدية تزرع استقطابا سياسيا، ازدادت حدته يوما بعد يوم، حتى وصل الاستقطاب إلى الشباب أنفسهم.
وبالطبع يقع جزء من المسؤولية على الشباب أنفسهم، غير أن الجزء الأكبر من المسؤولية تتحمله القوى السياسية والمجلس العسكري.
فالمشكلة الأولى عند الشباب يمكن ربطها بالمعرفة من جديد، فقبل 11فبراير/شباط 2011، اكتسب الشباب طرق هدم الأنظمة المستبدة، بعد تعرية انتهاكاتها لحقوق الإنسان وأساليب تعبئة الجماهير في مسيرات مليونية، أما في مرحلة البناء والتأسيس، فقد افتقد الشباب القدرة على استكمال طريق المعرفة وانشغلوا بمعارك جانبية بدلا من الاهتمام ببناء القدرات وإعداد الكوادر واكتساب مهارات بناء وإدارة الدول وإقامة نظام سياسي ديمقراطي بديل للنظام الاستبدادي.
وقد ازداد الأمر سوءا عندما لم يفطن الشباب -ولا غيرهم من القوى والأحزاب الأخرى أيضا- لطبيعة التغيير الثوري ومخاطره وسننه الكونية، وأهمها أن إسقاط رأس النظام لا يعني سقوط منظومة المصالح التي كانت تقف وراءه، وأن لكل ثورة أعداء لا يتوقفون عن مقاومة الثورة والتغيير، هذا بجانب عدم تقدير الشباب لنفوذ قوى إقليمية ودولية في دعم الأطراف المقاومة للتغيير.
وقد ترتب على هذا فقدان بوصلة الثورة لدى الشباب وعدم تركيزهم على الهدف الإستراتيجي لها، وعدم اهتمام الشباب، ولا غيرهم من القوى السياسية، بصلب عملية التغيير، أي بوضع نظام سياسي بديل بتفاصيله المختلفة.
ومع فتح ملفات مختلفة، تعقدت المواقف وفُتحت جبهات متعددة، استغلها خصوم الثورة بمهارة فائقة، ومن هذه الملفات موضوع الهُوية ومسألة تطبيق الشريعة، والكثير من المطالب الفئوية وغيرها.
هذا بجانب عدم اهتمام الشباب بدخول الأحزاب أو مزاحمة النخب القديمة في مواقع القرار داخل الأحزاب والجماعات السياسية القائمة.
كما لم ينجح الشباب في إقامة أحزاب أو مؤسسات جديدة تتسم بقدر من الاستمرارية، وعانت التجارب الوليدة من الكثير من الانشقاقات والمشكلات، كما حدث مع حركة 6 أبريل أو حزب العدل أو كما حدث مع شباب الإخوان وغير ذلك.
مسؤولية القوى السياسية
ازدادت الأمور سوء ولا سيما مع عوامل أخرى تُسأل عنها القوى السياسية الأخرى. فلم تفسح هذه القوى والأحزاب التقليدية المجال العام أمام الشباب، كما ساهم المسار السياسي المرتبك منذ البداية في زرع الاستقطاب السياسي وعدم التركيز على القضايا المحورية، ولم تستمع هذه القوى للشباب، ولم تضع آليات جديدة لتمكينهم، وانفرد المجلس العسكري برسم المسار وبوضع كافة القوانين.
ولم يواكب دستور 2012 التغيير الذي حدث في الألفية الثالثة، لا في مصر ولا على مستوى تطور الديمقراطية ذاتها.
لقد كانت هناك مقترحات عدة لتبني بعض مظاهر الديمقراطية التشاركية، والاهتمام بالمحليات بهدف تحويل فائض النشاط الشبابي إلى شكل مؤسسي جديد ضمن رؤية سياسية كلية.
وساهم الإعلام في تأزيم هذه المواقف وجذب بعض الشباب للإعلام مقابل إغراءات مادية ضخمة، كما تم تسييس حركات شبابية غير سياسية في الأساس، كالألتراس، نتيجة عدم تلبية مطالبهم بالقصاص، وتفاقم الوضع أمنيا في سيناء مع ظهور حركات ذات مرجعية إسلامية تعتمد العنف طريقا لمواجهة الدولة.
الشباب بعد 30 يونيو
شهدت الساحة المصرية الكثير من أوجه العبث في الشهور القليلة السابقة على 30 يونيو/حزيران الماضي، فقد تصالح شباب حركة تمرد مع النظام البائد، وسمحوا للرموز التي كانت تبرر سياسات النظام السابقة بتصدر المشهد السياسي من جديد.
والأخطر من هذا هو أن هؤلاء الشباب صاروا لا يرون أي خطورة من تسييس الجيش، بل ودعوه علنا للتدخل لحسم خلافاتهم السياسية مع الإخوان.
و لابد هنا من الإشارة إلى أن هؤلاء الشباب تجاوزوا الانتهاكات التي ارتكبها المجلس العسكري، والأخطاء السياسية التي ساهمت إلى حد كبير في تأزيم الموقف وإفشال المرحلة الانتقالية، وراحوا من جديد يرون الحل في تدخل المؤسسة العسكرية لإقصاء أول رئيس مدني منتخب في تاريخ البلاد.
وللأسف لم يُقدر هؤلاء الشباب عواقب ما فعلوه، لا على الجيش نفسه بإشغاله عن مهامه الأساسية، ولا على التجربة الديمقراطية الوليدة، فساهموا بذلك بقدر كبير في تأزيم الأمور ووصول البلاد إلى حالة حافة الاحتراب الأهلي والمباراة الصفرية.
ولهذا لم يعان شباب ما بعد 30 يونيو من غياب المشروع السياسي فقط، ولا من التوقف عن العمل على أساس فكرة التكتل والحد الأدنى الديمقراطي، وإنما صاروا جزءا أصيلا من الاستقطاب السياسي، وساهموا بشكل أصيل في تأزيم الموقف وتصدر الجيش المشهد السياسي من جديد.
وقد استمر هذا الأمر مع دعم شباب حركة تمرد حظر نشاط الإخوان واشتراكهم في حملة التشويه الموجهة ضد الإخوان ووصف أتباعهم بالإرهاب، كما باركوا الحل الأمني الإقصائي للإخوان، ولم يحركوا ساكنا لإدانة عمليات القتل والاعتقال المستمرة منذ شهور.
لقد ساهم هؤلاء- بوعي أو بغير وعي- في تعميق الاستقطاب الأيديولوجي والانقسام السياسي والحراب المجتمعي.
وللخروج من هذا النفق المظلم، أعتقد أن أمام الشباب خمسة أمور هي:
يتصل الأمر الأول بالمعرفة أيضا، فهناك ضرورة قصوى لمعرفة المخاطر التي تحيط بالثورة والدولة والمجتمع، هذا بجانب معرفة السنن الكونية للتغيير، وإعادة الاهتمام بالتدريب والتثقيف وإعداد الكوادر السياسية واكتساب مهارات بناء الدول الحديثة وإدارتها، فضلا عن امتلاك أدوات قراءة الواقع وتحليل المواقف وحساب المخاطر السياسية. فالسياسة علم وفن، ويجب على كل من يتقدم الصفوف أن يسلح نفسه جيدا بأكبر قدر من المعرفة والمهارات.
أما الأمر الثاني فهو استعادة وحدة الصف وراء الأهداف الأصيلة للثورة المصرية، والتكتل من جديد على الحد الأدنى المشترك وعلى هدف إستراتيجي محدد، بجانب الاهتمام بالتوافقات الكبرى وتجاوز المعارك الصغيرة والملفات الخلافية.
إننا بحاجة إلى تكتل وطني واسع يضم كافة التيارات التي تشعر بالخطر على الثورة وعلى الدولة ذاتها من جهة، ويضع مشروعا سياسيا برؤية فكرية وسياسية محددة، تركز على المستقبل وعلى حماية الحريات، ووضع الأطر الدستورية والقانونية والمؤسسية وذلك من جهة أخرى. مع ضرورة أن يكون لهذا التكتل خطاب إعلامي قوي يتجه إلى الجماهير في المقام الأول، ونظام متطور لتداول المعلومات، وقنوات فعالة للاتصال السياسي.
الأمر الثالث هو احتلال مساحات العمل العام والوجود داخل كل المؤسسات السياسية كالأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، ومواجهة من يقاوم التغيير داخلها، والعمل على تثوير المجتمع كله وراء أهداف الثورة، والاعتماد على الإدارة المؤسسية لأي تنظيم قديم أو جديد.
الأمر الرابع هو الالتحام بقضايا المجتمع وربطها بالحالة الثورية، والمساهمة في رفع الوعي بالمجتمع بأهمية ترتيب الأولويات وسنن عملية تأسيس النظام السياسي البديل.
الأمر الخامس هو التحلي بالنَفَس الطويل وإدراك طبيعة الثورات، التي عادة ما تكون في شكل موجات، وتشهد غالبا ثورات مضادة، والأهم أن دولا أخرى مرت بظروف أصعب مما نحن فيه، واستطاعت تجاوزها، عندما ظهرت قيادات ونخب واعية لها هدف إستراتيجي محدد ورؤية سياسية متكاملة.
الأمر السادس: الاستعانة دوما بالمتخصصين والخبراء لمواجهة نقص الكفاءات والخبرة، فبناء دولة المؤسسات ووضع الدساتير وإدارة الدول الحديثة، صارت من التعقيد والتشعب على نحو لا يمكن معها أن يحيط بها شخص واحد أو مجموعة أشخاص.
الأمر السابع: التقيد بمجموعة من القواعد في ممارسة العمل العام، والاتفاق على آداب للممارسة السياسية، وقواعد للحوار تحترم جميع الآراء والأعمار، وتبعدنا عن عقلية الإقصاء والتخوين والمؤامرة والشك.
*الجزيرة
عبد الفتاح ماضي
أين شباب الثورة المصرية؟ 1480