تأتي ذكرى الهجرة النبوية بعبقها الطيب وذكرياتها العطرة أول كل عام هجري لتذكرنا بالمعاني العظيمة لذلك الحدث الضخم الذي نقل الأمة من الجماعة إلى الدولة، فنتشرف بالحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذي لا ننساه أبدا فالأذان يذكرنا به على مدار اليوم، والصلاة عليه تتردد على الأفواه بتردد الأنفاس.
فطر الإنسان السوي على محبة الجمال، وعشق الكمال، والاعتزاز بالبطولة والكرم، والارتياح للمجد، ومذ وجد الإنسان وهذه المعاني تأسره، ويحتفي بها ويحاول أن يتملكها، وأن يقترب منها، وكذلك يحب من له صلة بها أو يتمثل فيه شيء منها.
والإنسان بطبعه وطبيعته يحب النبل والنبلاء، ويعشق الكمال والجمال والخلق العظيم ، ومن هنا فهو يحب الكريم من الناس، ويرتاح للماجد من بني البشر ، ويمجد من يتصف بالأخلاق العليا والخصال المحمودة. وهو بذلك يحقق إنسانيته ، ولذا ترى كل قوم يتباهون بمن برز فيهم من أناس لهم صفة من صفات المجد، ولهم لمسة من لمسات الخلود، وتتباهى الأوطان بأبطالها، والبلدان بعظمائها، ويزداد الشخص عظمة وسموا ورفعة كلما تدرج في مدارج الإنسانية وتناول معانيها وصبر من اجل إسعادها وإصلاحها، وتبرز أهمية الدور الذي قام به بقدر الأثر والتأثير الذي حققه وبقدر القلوب التي اتبعته والأفئدة التي أحبته.
ويكون أكثر عظمة وأعظم مجدا وأطول يدا وأسمى منزلة إذا رفع من أمته وأعلى من شأنها أما إذا استطاع أن يوجد أمة من العدم ، ويؤسس وجودا فكريا وثقافيا واجتماعيا ونظاما قانونيا محكما، ثم حكم به وساد ذلك المنهج قرونا متطاولة من الزمان لا يخفو بريقه ولا يضعف تأثيره ويزيد دوما ولا يتناقص محبوه. فهذا هو المجد الذي لا يصل إليه إلا صفوة الصفوة من الرجال، وأعظم القادة .
كيف استطاع محمد e وهو الإنسان الواحد بمفرده أن يوجد أمة من العدم، ويكون ثقافة من العدم، ويؤسس لدولة عظيمة من العدم، كيف تمكن الرجل المطارد مهاجرا بدينه أن تخضع له قبيلته بعد ذلك وهي أشجع القبائل شكيمة وأقواها عراكا وأشدها بأسا فتدين بدينه وتدافع عنه وتناضل في سبيله وتبذل النفس والنفيس والغالي والرخيص فداء له ولدينه وهي التي حاربته بكل ما تملك وقاتلته بكل وسائل الحرب والقتال، ثم تمضي بعد في طريقه وتتبع منهجه عن قناعة وتحارب لأجل إعلاء الراية التي يحملها عن إيمان عميق وصدق ويقين.
أي رجل هذا الذي يستطيع في ثلاث وعشرين سنة أن يغير مجرى التاريخ وإلى الأبد فقبل مبعث محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت الأمة العربية تعيش الجاهلية الجهلاء يدفنون بناتهم أحياء في سلوك فظ غليظ لا يفعله إنسان سوي أبدا، ذكر الله تعالى ذلك عنهم في آيات من القرآن الكريم، قال الله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ} (8) {بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} (9) سورة التكوير، وقال الله تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ } (58) {يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} (59) سورة النحل وكانت الأمة التي بعث فيها أمة أمية تعبد أحجارا تنحتها وتتعبد لأصنام يعمل فيها المعول والمنشار بل وصل بهم الحال أن يصنع أحدهم له صنما من تمر فإذا جاع أكله يأكل الإله الذي يعبده ويحميه ويحمي تجارته وقبيلته.
وقبل مبعث محمد رسول الله e كانت العرب تعيش وضعا ممزقا غاية في التشرذم والفرقة يقتل بعضهم بعضا ويغير بعضهم على بعض ويغزو بعضهم بعضا فيسلبون وينهبون ويقتلون ويبيدون بعضهم لأتفه الأسباب ومحقرات الأمور.
وقبل مبعث محمد رسول الله e كان المجتمع قد وصل مرحلة منحدرة من الأخلاق حتى وجدت بينهم البغايا ذوات الرايات الحمر ووجدت بينهم أنواع الزواج التي يصل فيها الحد أن الرجل يرسل زوجته لينكحها رجل ذو وجاهة لتأتي له بولد مثله، وكأنه يرسل بقرة أو فرسا يلقحها من فرس أو ثور، في صورة ممجوجة بغيضة. عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: إن النكاح في الجاهلية كان على أربع أنحاء فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها . ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع . ونكاح أخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع منه الرجل . ونكاح رابع يجتمع الناس كثيرا فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما فمن أراد دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم" رواه البخاري
وقبل مبعث محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت الكعبة بيت الله الذي بناه إبراهيم لتوحيد الله تعالى تزدحم فيه أصنام العرب لتشكل مجمعا للآلهة المدعاة يصل إلى ثلاثمائة وستين صنما، ناهيك عن الأصنام التي تختص بها القبائل كمزارات خاصة بها في غوغائية تمثل الضلال المبين.
وقبل مبعث محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الرجل العربي يعيش في عالة وضياع شديدين، والبلدان ذات الوفرة والحضارة تقع تحت وطأة الاستعمار الفارسي كالعراق واليمن ، أو الاستعمار الروماني كبلاد الشام، ولم يكن للعرب قيمة تذكر لا في ميزان السياسة ولا في موازين الاقتصاد. فهذا كسرى يأمر باذان عامله على اليمن أن يرسل رجلين ليحضرا محمدا صلى الله عليه وسلم من المدينة المنورة إلى فارس، رجلان يأخذان رجلا عربيا من وسط قبيلته وعشريته في عمق القبائل العربية، ويمضون به من القبائل العربية الممتدة مسافة الطريق كلها، ولعل كسرى أمر بأن يكونا رجلين ليؤنس أحدهما صاحبه ليس غير.
وقبل مبعث محمد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كانت العرب لا يجمعها رأي ولا توحدها راية ولا تضمها وشيجة حتى وشيجة الدم والرحم قطعتها الحروب، ومزقها الاقتتال، والمطالع للشعر الجاهلي وأيام العرب يدرك مدى الفظاعة التي وصل إليها ذلك الحال.
ولم يكن الحال أفضل في البلاد التي تحت حكم الروم أو سلطان فارس ، كان الظلم والظلام قد وصل إلى أقصى مداه، فلم تكن هناك أية حدود لسلطان من يملك، ولا أية حقوق للرعايا أو المنهزمين بل كانت البلاد توهب أرضا وإنسانا للمنتصر يفعل بها ما يشاء كيفما شاء.
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي أوجد الله به أمة من العدم ونفخ الروح في أمة كانت ميتة وإن كانت تسير على الأرض قد فقدت روح الإنسان وإن كانت في صورة البشر.
محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي صنع من رعاة الغنم قادة للأمم، به توقفت الحرب وحل الحب والسلام، وبه انتهت نزاعات الظلم ووجد قانون يطبق على الجميع وليس على الضعفاء فقط، محمد صلى الله عليه وسلم هو الذي أسقط مزاعم الجاهلية تحت قدميه، كلنا لآدم من تراب لا يوجد أحد من البشر من نسل الآلهة ، ولا يوجد أحد من البشر تجري في عروقه دماء الآلهة، ولا يوجد أحد من البشر يستعبد الناس وقد خلقهم الله أحرار، وأسقط دعاوي الجاهلية تحت رجليه فلا أفضلية إلا بتقوى الله لا أفضلية لجنس أو لون أو لغة أو بلدة أو عشيرة، الأفضلية بالأعمال سواء أكان العامل ذكرا أم أنثى أبيضا أم أسودا ، غنيا أم فقيرا من العرب أم من العجم .
قدم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم نموذجا إنسانيا تتجلى فيه صورة الكمال البشري فهو صحاب الخلق العظيم، والرحمة الكبيرة، والعفو والصفح الجميل، والكرم الذي لا يدانيه كرم كريم من البشر، وكان الزهد يتجلى في فعله، والبلاغة والفصاحة وفصل الخطاب في كلماته.
وقدم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم نموذجا إنسانيا كاملا في تعامله مع الناس مع المحب القريب ومع المبغض البعيد، مع من هو على دينه ومن يحارب دينه، فلقد وفى مع كل أحد وصدق في كل موقف ، وكان أمينا في كل شيء لم تزل منه كلمة أو موقف يعاب عليه لا قبل بعثته ولا بعدها.
قدم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم نموذجا إنسانيا للقائد العسكري الشجاع الذي لا ينكسر في المعركة ولا يذهل إذا تفرق أصحابه عنه، ولم يبق معه إلا القليل ، ولا يفزعه كثرة العدو الذي يحاربه.
قدم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم نموذجا إنسانيا كاملا لمن يحب المحبة والسلام وهو يؤكد تلك المعاني في حياة الناس، واقعا ملموسا، قولا وعملا، وهل هناك أعظم محبة للسلام من عفوه عن قريش يوم فتح مكة وهم الذين فعلوا به وبأهله وأصحابه الظلم المبين.
قدم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم نموذجا للمصلح الاجتماعي، الذي يصلح حال المجتمع فيرد الظالم عن ظلمه، ويرد للمظلوم حقه، ويقيم ميزان العدل بين الناس، بالقسطاس المستقيم ويقول في حزم والله لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها.
قدم محمد رسول الله صلى الله عليه و سلم نموذجا إنسانيا للسياسي الصادق الذي لا يكذب ولا يغدر ولا يخون قال الله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخائِنِينَ } (58) سورة الأنفال
قدم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم نموذجا للزعيم الذي يراعي مصلحة الجماعة ولكن ليس على حساب القيم والمثل العليا ، وموقفه يوم صلح الحديبية حين رد من جاءه مسلما إلى قريش لأنه جاء بعد عقد الاتفاق .
فهل يمكن أن نرجع تأثير محمد صلى الله عليه وسلم إلى واحدة من أمجاده السابقة، أم أن هناك شيء أهم هو الذي به استطاع أن يصل إلى ما وصل إليه، أن يبلغ المكانة التي تبوأها في قلب الحياة والأحياء.
لولا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته لما استطاع أن يفعل شيئا من كل ما سبق، لقد جاء بمعجزة باقية تتحدى العالم إلى آخر الدهر، لأن رسالته باقية، فكان لا بد أن تكون معجزته باقية، هذه المعجزة كلمات يتحدى بها الإنسان كل الإنسان في كل زمان ومكان أن يأتي بمثلها ، ولو بسورة قصيرة بطول سطر واحد. قال الله تعالى : {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (23) سورة البقرة وقال الله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} (38) سورة يونس فأعلن أعداؤه عجزهم ، وضجوا يقاتلونه عنادا وكفرا ولم يطلب منهم سوى كلمات مثل الكلمات التي جاء بها، وما زال التحدي قائما. وما زال العجز كذلك ماثلا للعيان.
د. محمد عبدالله الحاوري
في ذكرى الهجرة 1999