يقول توكفيل (لا يمكن اشتقاق مجتمع مدني من مجتمع للعبيد)، أن يتم تسييد للقيم والعلاقات القبلية والعائلية القادمة من الريف، هل يمكننا صناعة مجتمعاً مدنياً؟، لماذا ظلت مجتمعاتنا العربية متخلفة حتى بعد الاستقلال من الاستعمار الكولوينالي؟!، وهل ستظل على هذا الحال حتى بعد ثورات الربيع العربي؟!، وهل سيبقى مجتمعنا المدني مجتمعاً شكلياً يدار بعقليات الريف القبلية؟!، أي سيبقى مدنياً شكلياً بينما هو أسير لقيم قبلية وعائلية ريفية؟!.. إن أردنا صناعة دولة مدينة حديثة, هل نمدن الريف أم نعمل على ترييف المدينة؟!، ما هي القواعد الأساسية لصناعة دولة مدنية حديثة؟!.
بعد أن تحرر مجتمعنا العربي من الاستعمال الكولوينالي لم يستطع تكوين دولة مدنية وذلك لأن مدننا العربية أصبحت أسيرة لقيم الريف القبلية والعائلية، وللأسف الشديد فقد غرق عدد من السياسيين والمتعلمين في هذه القيم الرجعية وكان ذلك كرد فعل لرفض قيم الغرب الغازي, أي المدنية والحداثة، وهكذا غرق عالمنا العربي بالقيم القبلية الريفية وبالأعراف المدمرة التي أعاقت نموه وتطوره.
المعروف أن منظومة القيم والأعراف القبلية تغلب مصلحة الفرد على مصلحة المجتمع, كما أن الأعيان يتولون النظم الإدارية كونهم ينتسبون لعائلات ذات نفوذ بغض النظر عن الكفاءة، أما المنهج العلمي في هذه المنظومة فهو معطل تماماً.
إذاً رابطة الدم هي المقدسة، وهي التي تدير كل النظم والقوانين, كما أنها لا تؤمن بالتعدد والتقاسم والتعايش مع الآخر، وكل ذلك عمل على ترييف المدن العربية بعد الاستعمار وبالتالي ظهرت الدول العربية ذات الطابع الريفي الأبوي السلطوي وتم القبض على مفاصل الدولة بحسب رابطة الدم، وكل ذلك أدى إلى تغييب الديمقراطية وانتهاك الحقوق والحريات وإلى تخلف مجتمعاتنا لعقود من الزمن..
وهكذا فالحكم القبلي السلطوي لا ينتج دولة مدنية حديثة، بل ريفاً آخر داخل المدينة, فمن حيث مستوى التفكير مثلاً نجد بأن الشعب يمتلك أجهزة الحداثة مثل الحواسب الشخصية والهواتف الذكية، إلا أن القيم الشخصية والتفكير لا تمت بصلة لهذا العصر, فالأفراد يعبثون بأدوات العصر الحديث ليس إلا.
ونجد أيضاً داخل المدينة شيوع التمرد على القانون, كما أن المؤسسات تكون شكلية فقط، لأن لا يجتمع النقيضان, أي البيئة الأحادية اللون التي لا تؤمن بالتعددية وبين المؤسسات التي لا تعير اهتماماً لقرابة الدم، فإذا كان السلطة الأبوية القبلية تهتم بالمركز وبالحكم المركزي فإنها لن تُصدر للمجتمع سوى دولة غير منضبطة وذلك لأن قوانين الدولة تبنى على قوانين الريف القبلية ولهذا نجد داخل المدينة ما يسمى بعقال الحارات مثلاً وهم صور مصغرة، للأعيان والمشايخ الذين يحكمون الريف ويحكمون المدينة أيضاً، وهذا النوع من الحكم لا يمكن أن يحكم تجمعات سياسية وسكانية ومهنية ولا يمكن أن يرقى بالدولة إلى مصاف الدول الديمقراطية والمدنية الحديثة.
إننا اليوم وبعد هذا الربيع العربي يجب أن نحذر من القيم المغايرة للمدنية الحديثة, لأنه إن استمر التغييب لقيم التصالح الوطني والحداثة والتسامح وقيم الاختلاف وقيم الثقافة المدنية فإننا سوف نظل مأسورين بالقيم القبلية التي تنفر من الحداثة وتسحبنا معها إلى ثقافة قرب الدم والمشايخ والأعيان وبالتالي ستكون ثورتنا عقيمة وسوف يتحول ربيعنا العربي إلى خريف دائم.
لم يكن ربيعنا طفرة، وإنما بذلت شعوبنا العربية جهوداً كبيرة لأجل صناعة هذا الربيع الذي بدأ يزهر، فقد عمل الإنسان العربي المطحون ضد الثقافة المعاكسة للتنمية والإصلاح والمشاركة السياسية وجاهد من أجل تنمية الثقافة اللازمة لإنتاج دولة مدنية حديثة، فهل سيذهب هذا الجهد في مهب الريح؟!.
هناك محفزات قامت لأجلها ثورات الربيع العربي وأسقطت النظم العسكرية القبلية, لكن إلى أين تحولت عملية التغيير؟!. إذاً التحدي الكبير الذي نواجهه الآن هو توجيه الجهود نحو بناء العقول وجعل الثقافة المدنية الحديثة مركباً من مركبات الثقافة المجتمعية والتصدي للثقافة الريفية القبلية التي تعيق بناء دولة المواطن المتساوية.
إننا لا نقول بأن مصر كانت دولة مدنية لأنها تمتلك مساحة جغرافية كبيرة ولديها مدن كبيرة تعج بالسكان مثل القاهرة والإسكندرية, فنحن لا نقيس المدنية على هذا الأساس ولا على أساس سوء التخطيط العمراني فقط، بل إن مفهوم المدنية لدينا هي عقد اجتماعي يلتزم به كل البشر ويصيغونه على أسس سياسية واجتماعية ومدنية تنظم الحياة العامة وترسي دولة مدنية يتساوى فيها كل البشر.
نعم نحتاج إلى حلول لمواجهة مشكلة التلوث البيئي والكثافة السكانية والتخطيط العمراني، ووضع قوانين جديدة للبيئة، لكن كل الإدارات وكل المؤسسات وملفات التنمية والبيئة والتخطيط العمراني سوف تفشل، وكذا سوف تفشل كل مشاريع الحداثة والتنموية ومشاريع الدولة المدنية الحديثة، إذا تجاهلنا مسألة ترييف المدينة، فالدولة المدنية لا يمكن قيامها إلا في ظل الديمقراطية التي لا تعتمد, بل لا تتفق مع قوانين قرابة الدم والنسب والمصاهرة والأعراف القبلية التي تقصي الآخر المختلف.
د. شبيب غيلان المعمري
دولة مدنية أم ترييف المدينة؟ (1-2) 1485