كانت ثورة يناير العظيمة في جانب مهم منها تستهدف مواجهة الجلادين الذين كانوا يسحقون كرامة الإنسان المصري، ويستبيحون حرماته وينتهكون أمنه وحقوقه؛ وكان سقوط الجهاز القمعي الوحشي أول انتصار حققته الثورة وترتب عليه تنحي الطاغية.
عندما وقع الانقلاب العسكري الدموي الفاشي في 3 يوليو 2013، تم استدعاء الجلادين مرة أخرى بصورة أكثر وحشية ودموية، فتمت المجازر التي شاهدها العالم في دار الحرس الجمهوري والمنصة ورابعة العدوية والنهضة ومسجد الفتح ورمسيس وأكتوبر وجامعة الأزهر وبقية المحافظات، وتوازى مع المجازر واستمر حتى اليوم اعتقال الشرفاء الحقيقيين وإيداعهم المعتقلات والسجون في وضع مهين ولا يليق بالآدميين، ثم انتقل منهج الجلادين إلى اقتحام الجامعات بالمدرعات وقتل الطلاب وإصابتهم، والإغارة على حرية التعبير حيث جرى تأميم الصحافة والإعلام وتكميم الأفواه لحساب الانقلاب، وصار ما يقوله ضابط الشئون المعنوية أو ضابط أمن الدولة هو ما يظهر على الصفحات وفوق الشاشات، وأضحت شيطنة المعارضين للانقلاب بالكذب والتدليس والبهتان، واتهامهم بالإرهاب والقتل والتحريض عليه السمة الأولى المميزة لخطاب الجلادين، بالإضافة إلى منع كل صوت وطني حر يستطيع أن يدحض دعاوى البيادة الغشوم من التعبير والنشر.
طريقة التعامل البشعة مع المعارضين للانقلاب امتدت إلى الجمهور العادي في المرور والأقسام والمديريات والجوازات والأحوال المدنية وبقية المرافق التي للشرطة عليها ولاية، وذلك لردع الناس عن النظر إلى أسيادهم، والتأكيد على هيئة الباشاوات العائدين إلى مملكتهم المقدسة حيث" من تمتد إيده على سيده تقطع إيده "، وعاد التعذيب في الأقسام ليطال المواطنين بلا استثناء!
أعلم أن هناك قطاعا من الشعب يستعذب الحياة في ظل الجلادين ويستمتع بسياطهم ويقبّل البيادة ويلعقها ويمسحها ويسجد لها كلما لاحت له من بعيد؛ هذا حصاد ستين عاما من الحكم البوليسي الفاشي الذي ورث عن الاستعمار الإنجليزي أسوأ ما فيه؛ وهو العنصرية واستباحة كرامة المواطنين بوصفهم درجة منحطة.
وهؤلاء لا يشعرون بالحياة إلا إذا عاشوا تحت سطوة الكرباج، وشعروا بالخوف، وعرفوا أن هناك عينا حمراء تنتظرهم وتتربص بأدنى خطأ يفعلونه، فيحق عليهم العذاب.. وبالتأكيد فالقطاع الأكبر من الشعب يرفض الكرباج ويحب الحرية ويضحي من أجلها، وهو الذي ينزل الشارع يوميا رافضا للانقلاب وعسكرة الدولة.
في الأسبوع الماضي كنت شاهد عيان على حالة من حالات الانتقام الوحشي للسادة الباشاوات وكان أغلبهم من حضرات أمناء الشرطة.. في المسافة بين طنطا وكفر الزيات كمين لتصوير السيارات التي تسير بسرعة فوق المعتادة؛ هذه المسافة تزدحم عادة بالسيارات والمطبات والتقاطعات – أي إن السيارات لا تستطيع أن تسير بسرعة غير عادية، ولكن الكمين يغرم السيارات الخاصة غالبا والدفع الفوري "مائة وخمسين جنيها"، ومن يرفض فعليه أن يذهب ويدوخ عدة أسابيع في مرور المحافظة التابع لها ليدفع المبلغ مضاعفا – أي ثلاثمائة جنيه! الانتقام من الشعب واضح.. سمعت أحد أصحاب السيارات ممن ينتظرون الدفع الفوري يعلق قائلا: أصحاب الميكروباصات الذين يعلقون صور السيسي لا يدفعون, والسيارات التي تشغل تسلم الأيادي يتركون، أما الأهم من هؤلاء من يضعون الصليب خلف زجاج السيارة فلا يسائلهم أحد! سمعت ولم أعلق!
لا أظن أن الهيبة تأتي نتيجة الانتقام والعنف واستباحة الكرامة ومنح القانون إجازة.. النظام الانقلابي يتصور أن المعارضين للانقلاب إرهابيون.. آلاف المعتقلين الذين يقبعون في أسر السلطة الانقلابية وفيهم المريض وكبير السن وصغيره ومن تستحي الدول المستبدة من اعتقالهم مثل حرائر مصر الشريفات العفيفات وأساتذة الجامعات والطلاب النابغين والأطباء والمهندسين والمعلمين والوزراء والمحافظين والنواب ورؤساء الأحزاب والسياسيين والمتخصصين في الفيزياء والكيمياء والجيولوجيا والبترول وغيرهم من كرام الناس وشرفائهم في الوطن؛ ليسوا إرهابيين. إنهم يؤمنون بالله ويدافعون عن الإسلام والوطن الحر المستقل ويريدون بناء وطنهم بالتعاون والمشاركة والتفاهم وليس بمنطق العصا الغليظة ولا الذراع القوية ولا وضع البيادة فوق الرؤوس والقلوب!
السادة الباشوات فشلوا في تحقيق الأمن الوطني والأمن الشخصي ، لسبب بسيط هو أن الانتقام لا يصنع وطنا آمنا، ولا يحقق سلاما اجتماعيا طالما كان هناك قهر للشرفاء الحقيقيين, وترك اللصوص الكبار والفاسدين وأصحاب السطوة والنفوذ يعيثون في البلاد خرابا.. هل يمكن أن نحقق الأمن ونحن نستعين بالبلطجية والمسجلين خطر والقناصة في مواجهة المواطنين الأحرار؟ كلا..
المفارقة أن هؤلاء البلطجية والمسجلين يكون ضحاياهم في أحيان كثيرة من أهل السلطة وأتباعهم، وللأسف لا يملك أصحاب العصا الغليظة تأمين شعبهم المميز العنصري من شرور هؤلاء !
لقد وصل الفشل إلى كافة المرافق المرتبطة بالأمن, حتى المرور الذي لا يتطلب عبقرية خارقة للعادة فشل فيه أصحاب العصا الغليظة، واضطروا لعمل حملات شعبية مثلما حدث مؤخرا في الحملة التي عنوانها " المصري يقدر"، هذه الحملات مصيرها الفشل الذريع، لسبب بسيط وهو أن فكرة تنظيم المرور لدى أصحاب العصا الغليظة خاطئة, يظنون أن فرض الإتاوات على الشعب ستجعله ينظم المرور، بينما فكرة تنظيم المرور في العالم تقوم على أساس تيسير حركة المرور, الإتاوات لا تسهم في تيسير الحركة ولكنها تعمل على تغليظ العصا الأمنية، فالإتاوات التي تبدأ منذ ترخيص السيارة حتى المخالفات الانتقامية تصب في جيوب السادة الكبار والصغار بالآلاف والمئات على هيئة حوافز وغيرها وكله بالقانون.
في تركيا التي يردح لها الصحفيون الانقلابيون ينساب المرور كما ينساب الماء في الشلالات، ففي استانبول - وهي في حجم القاهرة وترتفع فوق سبعة تلال بينها وديان وأرضها ليست مستوية مثل أرض عاصمتنا المحروسة – لا تشعر بأزمة مرور, والسبب أن رجل المرور هناك هدفه التحرك مع السيارات طوال مدة خدمته ليساعد على انسياب الحركة والإبلاغ عن الأعطال ومساعدة السائقين وليس الجلوس في كمين لشرب الشاي مع الرفاق وإيقاف السيارات للتفتيش في أوقات الذروة، أو الانزواء بؤسا على نفسه في إحدى الزوايا وترك الناس يحلون مشكلاتهم بأنفسهم. هيئة المرور في بلاد العالم مسئولة عن توسيع الطرقات، وإزالة المطبات غير القانونية، والمواقف العشوائية على الطرق السريعة والفرعية ومعالجة الحفر التي تنشا في أي مكان وأية لحظة لأن الحفرة الصغيرة تتسبب في خسائر كبيرة.
هكذا يفهم العالم معنى تنظيم المرور بعد أن وضعوا للناس إشارات إلكترونية في بلادنا المنكوبة صار الانتقام الوحشي هو السبيل لاستعادة هيبة السادة الباشاوات!
فهل صحيح ستعود هذه الهيبة؟
د. حلمي محمد القاعود
الانتقام الوحشي وهيبة الباشاوات! 1467