أخيرا تحط أيقونة الصمود رحالها بعد حياة حافلة بالنضال الذي تمخض عن انعتاق أمة من أسر العبودية بفضل هذا الرجل الذي سطر بصموده ملحمة أسطورية ينذهل العقل عندما يطالعها، وسجل بنضاله تاريخا من الحرية والنضال الذي غدا مدرسة تستلهم منه الأمم والمجتمعات الدروس والعبر.
اليوم يتذكر الأفريقيون الجنوبيون هذا الرجل بكل إعزاز وافتخار نظرا لما كان يمثله في تاريخهم الحاضر، ولما كان يمثله في عقولهم وفي وعيهم الجمعي
قليل من الناس في هذه الحياة من استطاعوا أن يلفتوا أنظار العالم نحوهم بإعجاب، لكن ما نيلا كان فوق كل هذه الاعتبارات لما رأينا العالم يقف حدادا لموته كان هذا العالم سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا أو رياضيا أو حتى دينيا سواء كان الواقف لموته مسلما أو غير ذلك, فالرجل ترك إرثا من الحرية لشعبه سيكفيه لمئات السنين القادمة لأن يعيش على ضوئها، وهنا تكمن عظمة الرجل الأسود الذي فاق أقرانه البيض في تلمس مواطن الحرية في كثير من الأحيان
اليوم نتذكر كيف كان السجناء السياسيون السود يحتجزون في عزلة بالسجن المشيد من صخور تعصف بها الرياح وسط مياه تمتلئ بأسماك القرش قبالة ساحل كيب تاون لفترة امتدت ثلاثة عقود إلى أن بدأ الرئيس الأسبق فريدريك دي كليرك في إنهاء حكم الأقلية البيضاء عام 1990 وتحول السجن الآن إلى متحف ومزار سياحي شهير.
وكانت المرة الأولى التي يدخل فيها مانديلا إلى سجن جزيرة روبن عام 1962 ليقضى عقوبة قصيرة عن جرائم سياسية بسيطة، ثم عاد بعد عامين ليقضى عقوبة السجن المؤبد بعد إدانته بالتخريب والتآمر للإطاحة بالدولة.
وصدرت الأحكام على مانديلا وكان عمره آنذاك 46 عاما مع أعضاء بارزين آخرين في المؤتمر الوطني الأفريقي بالأشغال الشاقة فكانوا يكسرون الصخور في محجر جيري.
ونتذكر من التاريخ اليوم كيف كان السجناء الذين يقيد كل أربعة منهم في سلاسل تربطهم معا يعملون من ثماني إلى عشر ساعات يوميا خمسة أيام في الأسبوع وألحق وهج الشمس المحرقة على الصخور البيضاء وتصاعد الغبار في المحجر أضرارا دائمة بعيني مانديلا.
في سيرته الذاتية "رحلتي الطويلة إلى الحرية" -التي كتب معظمها في زنزانته- يتذكر مانديلا مشاعر الوحدة والعزلة التي كانت تنتاب السجناء، وكتب يقول "كان سجن جزيرة روبن بلا شك أكثر المراكز قسوة وبطشا في نظام العقوبات في جنوب أفريقيا".
وكتب مانديلا "السفر إلى سجن جزيرة روبن كان مثل الذهاب إلى بلد آخر كانت عزلته تجعله ليس مجرد سجن آخر بل عالم منفصل بذاته، بعيد كل البعد عن العالم الذي جئنا منه".
وفي طريقهم إلى جناح من طابق واحد كان في استقبال السجناء كلمات ساخرة تقول "مرحبا بكم في سجن جزيرة روبن، نحن نخدم بفخر".
وفي القسم (ب) يرشد سجناء سياسيون سابقون الزوار إلى زنزانة السجن الانفرادي لمانديلا وهناك تجد منضدة صغيرة عليها فنجان معدني وطبق وعلبة للاغتسال من الصفيح المنبعج كما كانت قبل عقود.
تطل نافذة صغيرة على الفناء وعلى الأرض حشية من الليف الأبيض عليها ثلاثة أغطية رمادية اللون تستخدم كسرير حتى لا ينام النزلاء فوق الأرضية الإسمنتية الباردة.
يكتب مانديلا الذي كان ذات يوم ملاكما هاويا نحيلا "كان بإمكاني أن أقطع الزنزانة في ثلاث خطوات، وعندما كنت أرقد كان بوسعي أن أتحسس الجدار بقدمي بينما يلامس رأسي الجدار الإسمنتي على الجانب الآخر".
كان رقم مانديلا في السجن 64/466 وهو رقم أصبح مشهورا الآن في الحملات العالمية لجمع الأموال لمكافحة مرض الإيدز ولمؤسسة مانديلا للطفولة.
وتغيرت الظروف خلال 18 عاما قضاها في الجزيرة تبعا للأوضاع السياسية في البلاد فضلا عن هوى المسؤولين القائمين على السجن.
وبرغم المشقة والعناء لم يصب مانديلا جام إحباطاته على سجانيه. وقال كريستو براند، السجان الذي صاحب مانديلا من عام 1978 حتى إطلاق سراحه في 1990 "كان دائما ودودا ومهذبا ومعينا لغيره".
وأضاف براند، الذي يعمل الآن في متحف جزيرة روبن "أصبح مثل الأب بالنسبة لي إذا ما احتجت بعض العون أو المساعدة في شيء كان دائما حاضرا".
وإلى جانب إرادته الحديدية ومواقفه التي تستند إلى المبادئ، ساعد كرم مانديلا وسحره الذي يمس القلوب سريعا في تخفيف القواعد الصارمة في السجن. يقول مانديلا "كان يبدو أن النزلاء هم من يديرون السجن وليس السلطات"
إذا نحن أمام شخصية وإن كانت غير مسلمة إلا أن تشربت كثيرا من معاني الإسلام، ومفاهيمه الداعية إلى الحرية وكسر القيد الرابض على قلوبنا وعقولنا، الأمر الذي جعل الدكتور عايض القرني يدعوه إلى الإسلام في خطاب عجيب جاء فيه من: عائض القرني، إلى: الرئيس نيلسون مانديلا
تحية طيبة أيها الرئيس العظيم:
أنا أحد الملايين في مشارق الأرض ومغاربها، الذين قرأوا سيرتك، وعرفوا جهادك، وأُعجبوا بصمودك، وتعجَّبوا من تضحيتك واستبسالك في سبيل مبدئك، ولأجل حريتك وحرية شعبك، حتى صرت نجماً في أفق الحرية، وزعيماً عالمياً في مدرسة النضال، ومنظِّراً عبقرياً في دستور حقوق الإنسان.
لقد أخذ الناس منك قصة الكفاح، واستفادوا منك رواية المجد وأنشودة الإصرار والتحدي، فصرت أنت أباً لكثير من المستضعفين الذين سُلبوا حقوقهم، واضطُهدوا في ديارهم، وحرمهم الاستبدادُ من العيش الكريم، فرأوا فيك مثلاً حياً، وقدوةً حسنةً في الصبر والإصرار والاستمرار، ورفض الظلم، ومواصلة البذل والفداء، حتى تُنال الحقوق.
أيها الرئيس العظيم:
إن الإسلام - دين الله الحق - دين عظيم، يحب العظماء، ويحترم المبدعين، ويحيي الشرفاء، وأنت أحدهم.
إنه دينُ المساواة؛ ساوى بين عمر العربي، وبلال الحبشي، وسلمان الفارسي، وصهيب الرومي، إنه دينٌ يرفض الظلم، ويحرم الاستبداد، ويُلغي فوارق اللون والجنس واللغة، يقول الله - عزوجل'إن أكرمكم عند الله أتقاكم' ' -: ? ?.
أيها الرئيس العظيم:
إن الإسلام يحتفي بمثلك من العظماء؛ لأنه دين يقدِّر الفضيلة، ويعظِّم الصبر، ويحثُّ على العدل، وينشد السلام، وينشر الرحمة، ويدعو إلى الإخاء.
أيها الرئيس العظيم:
لقد حصلتَ على المجد الدنيوي، ونلتَ الشرف العالمي، وأحرزتَ وسام التضحية، ولبست تاج الحرية، فأضفْ إلى ذلك: الظفر بطاعة الله وبالإيمان به، واتباع رسوله ' صلى الله عليه وسلم '?، ولا يكون ذلك إلا بالإسلام، فأسلمْ تسلم، أسلمْ تنلْ العزَّ في الدنيا والآخرة، والفوز في الأولى والثانية، والنجاة من عذاب الله. أسلمْ - أيها الرئيس العظيم - لتحييك الأرض والسماء، ويرحِّبَ بك مليار ومائتا مليون مسلم، وتفتَّح لك أبواب الجنة.
أيها الرئيس العظيم:
إنك مكسبٌ للإسلام، ورصيدٌ للمسلمين، وما أجملها أن تنطلق من فمك كلمة الحق والعدل والسلام والحرية: «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وهي أصدق جملة أنزلها الله على الإنسان، وهي سرُّ سعادة الإنسان ونجاته وفرحه ونصره.
أيها الرئيس العظيم:
كلما قابلتُ في بلاد الإسلام علماء وزعماء وأدباء وحكماء قالوا: ليت (نيلسون مانديلا مسلم)، فأرجوك وآمل منك أن تعلنها قويةً مدويةً خالدةً: «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، حينها سوف يصفِّق لك عبادُ الله في القارات الست، وتحييك مكة، وتفتح لك الكعبة أبوابها، وتشيد منابر المسلمين باسمك الجميل.. أنت صبرت في الزنزانة سبعاً وعشرين سنة حتى كسرت القيد، وانتصرتَ على الظلم وسحقت الطاغوت، فسطِّرْ بإسلامك ملحمةً من الإيمان، وقصةً من الشجاعة، وصورةً رائعةً من صور البطولة.
أيها الرئيس العظيم:
والله لقد وجدنا في الإسلام - نحن المسلمين - قيمة الإنسان وكرامته، وذقنا حلاوة الإيمان ولذة الطاعة، ومتعة العبودية لله، وشرف السجود له، ومجد اتباع رسوله، ولأنك عزيز علينا، أثير في نفوسنا - لتاريخك المشرق - فنحب أن تشاركنا هذه الحياة السعيدة في ظل الإسلام، والفرصة الغامرةَ في رحاب الدين الخالد.
أيها الرئيس العظيم:
إن الـمُثل العليا التي تدعو لها سوف تجدها مجتمعة في الإسلام، والرحمة التي يخفق قلبك بها سوف تلمسها في الإسلام، والعدل الذي تدعو إليه سوف تسعد به في الإسلام.
إن الإسلام يحب الصابرين وأنت صابر، ويحترم الأذكياء وأنت ذكي، ويبجِّل العقلاء الأسوياء وأنت عاقل سوي، ويحتفي بالشجعان وأنت شجاع.
أيها الرئيس العظيم:
لقد عشت معك أياماً جميلة عبر مذاكرتك: (رحلتي الطويلة من أجل الحرية)، فوجدت ما بهرني من عظمتك وصبرك وبسالتك، فقلت: ليت هذا الإنسان الفاضل الألمعي مسلم، ووالله لا أجد ديناً يستأهلك وتستأهله غير الإسلام، ولا أعرف مبدأً يكرم مثلك إلا الإسلام؛ لأنه دين الفطرة، يشرح الصدر، ويخاطب العقل، ويهذِّب النفس، ويزكي الأخلاق، ويكرِّم الإنسان، ويعمر الكون.
أيها الرئيس العظيم:
أنا أخاطبك من مكة، من جوار الكعبة؛ حيث نزل القرآن وبُعث محمد صلى الله عليه وسلم ?، وأشرقت شمس الرسالة، وكُسر الصنم، وحُطِّم الطاغوت، وأُعلنت حقوق الإنسان، وأُلغي الاستبداد، ونُشر العدل والسلام.
يقول ربنا وربك - جل في علاه ' فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ' -: ? ?.
أيها الرئيس العظيم:
إن الحياة قصيرة متعبة فما بالك إذا كانت حياة مثلك من العظماء؛ إذ قضيت ما يقارب النصف من عمرك مظلوماً مسجوناً، وهناك حياة الأبد والخلود في حياة النعيم التي ينالها المؤمنون بالله المتبعون لرسله، وأرجو أن لا تفوتك هذه السعادة والفوز، وكما يقول الفيلسوف الشهير ديكارت: «إن الحياة مسرحية رأينا المشهد الأول؛ مشهد الظالم والمظلوم، والغالب والمغلوب، والقوي والضعيف، فأين المشهد الثاني الذي يكون فيه العدل؟!»، فأجابه علماء المسلمين بقولهم: «المشهد الثاني هو يوم الحساب في الآخرة، يوم تُنصب محكمة العدل إذ لا حاكم إلا الله؛ ليوفي كلَّ نفسٍ بما كسبت، ويحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون».
وفي الختام أسعد بأن أهديك كتابي: (لا تحزن) لعلك تجد فيه إجماع العلماء والحكماء العباقرة على أن السعادة في الإسلام.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يشرح صدرك - أيها الرئيس - للإسلام.
وتقبل تحيات المسلمين رجالاً ونساءً وشيوخاً وأطفالاً في كل أصقاع الأرض.
وتقبلوا تحياتي،،،
د. عائض عبدالله القرني
فعلاً لقد استطاعت أيقونة الصمود السوداء أن تلفت العالم إلى قضيتها العادلة التي انتصرت في نهاية الأمر وأصبحت اليوم جنوب أفريقيا الدولة السمراء التي تعيش بمقومات الحاضر المتطور بفضل هذا الرجل الذي نتذكره اليوم لنستلهم من سيرته أروع دروس الحرية والنضال الذي أصبحنا بحاجة إليه اشد من حاجتنا للماء والهواء فهل نعي ذلك
مروان المخلافي
مانديلا..خلود في الحياة وفي الممات 1382