قد يبدو العنوان وما يتوسط بمفهـوم " السقوط " مثيــراً للتذمر لدى البعض ممن يتصفحون العناوين المقالية أو المتعصبون لحضور المسميات اللفظية الرافضون لتقييم مسار الأحداث إلا أن الواقع لا يخضع للجمود والتأريخ لا يرحم المرتعشة أفكارهم في صناعة فجر الأحداث الوطنية ذات الطابع التغييري والانتقال بالأوضاع من فترة السلب إلى مرحلة الرُقي والإيجاب نعم جاء الربيع العربي بمفهومه الثــوري التغييـري كحاجة ملحة لتطلعــات الجماهير العربية الطامحة للتغييـر بما فيها تلك المنضوية حزبياً في الأنظمة الديكتاتورية الحاكمة بصفة جماهيرية في ظل ممارسة الأنظمة ذروة الفسـاد المالي والإداري واحتكار السلطة في الأسرة والمولات وقمع الحريات وفرض العنتـريات من قبل أدواتها البوليسيــة على المواطن وملاحقته لدرجت إذلاله في لُقمة ومساومته في الحصول على حق العيش بحرية وكرامة, وما رافق ذلك من قبح سياسي في التعامل مع العقول والأدمغة كثـروة وطنية, تم محاربتها تهجيـرها تصفيتها جسدياً كل هذه الممارسات القمعية أوجدت أرضية خِصبة لاندلاع ثورات الربيع بالمفهوم الجماهيـري وعلى مستوى الفرد العادي والمثقف الواعي, الذي يحلم بتأسيس مشروع الدولة المدنية المنتجة لكل ما هو حضاري مواكب للعصر المعـرفي ومحافظـاً على الهوية وقيمها العربية الإسلامية نعم جاء الربيع العربي الثوري في مرحلة بلغ فيه العُهر السياسي للأنظمة العربية الحاكمة الزُبا وتجاوزت حدود الانتهازية والتآمر والغبـاء في إدارة الأوطان والتعامل مع القضايا المصيرية للأمة, وهنا رأت الجماهير في الربيع العربي الفرصة المناسبة للتغييـر وحضوراً في الميـادين والساحات العامة تنفست الصُعداء مطالبة بإسقاط الأنظمة, مقدمة في سبيل ذلك التضحيات فداء وثمن للحرية والارتقاء بالأوطان إلى مصاف التغيير الحقيقي كمنظومة متكاملة تلامس الأرض والأنسان معاً كي يتجسد معنى الوطن المنشود العيش فيه بحرية وكرامة الإنسان وسيادة القـرار إلا أن هذا الحُلم العربي الوليد سُـرعان ما تكشفت إرهاصات ولادته وتعفن حليب مرضعيـه من في ثلاجات السـاسة المحليين المستوردة بصناديق جاهزة تتسرب منها رائحة النفـط والطائفيـة والتجـزئة " الفيــدرالية " كمشروع صهيو أمريكي بديل للمشروع العربي الحضاري الوحدوي
الربيع العربي كغاية للقوى الإقليمية, وهدف للقوى الاستعمارية, ووسيلة للقوى المحلية التقليدية كان جاهزاً في سياسية الإدارة الصهيو أمريكية والغربية وأخواتها المتأسلمة في المنطقة والجوار كتسمية مناسبة للشمول ومشروع للعبــور إلى الفوضى الخلاقة وتعميمهـا في الوطن العربي, قبل انطلاقة حُددت الدول والإمارات العربية الداعمة له والممولة لفعله سياسياً, مادياً, إعلاميــاً أيضاً تم الاتفاق على تحديد المكون السياسي الذي سيكون له أحقية السبق والسيطرة على الأمور في نهاية كل ثورة عربية ربيعية وهنا برزت أعراض السقوط لما يُسمى بثورات الربيع العربي والذي أنــا من أحد الكُتاب العرب المناصرين لها عبر فوهة القلم ومن خلال محراب الإعــلام رغم ذلك الشعور بالخوف من النتائج المُسبقة التي سيطرت على حضور الحدث في مرحلة كان المشروع الصهيو أمريكي الشـرق أوسطي قد فشل في تحقيق أهدافه الشيطانية في توسيع سياسة التطبيع ومحاولة اغتيال القضية الفلسطينية, وتصدير الديمقراطية الناشئة بقوالب الفوضى الخلاقة ومن هذا المُنطلق وما يدعمه من شواهد حاضرة في الواقع وفعــل الحدث ومن خلال قراءة داخلية, وخارجية يمكنني إيجـازاً توضيح أسباب السقوط المرحلي لمشروع الربيع العربي بالآتي:
أولاً: لم يكن الربيع العربي بالمفهوم الثوري يحمل مشروع استراتيجي للتغيير الحقيقي الذي من أجله خرجت الجماهير في بعض الأقطار إلى الميادين والساحات العامة وقدمت التضحيات في سبيل نيــل الاستحقاقات الوطنية, بقدر ما كان حالة من الغضب الجماهيري المكبوت تنفس الصعداء تحت شعــار وقتي " الشعب يريد إسقاط النظام " دون أن تكون هناك قيادة ثورية فاعلة من أوساط الجماهير تُعبــر عن المشروع وتصيغ أهـدافه العامة برؤية وطنية تحمل معنى التغييــر كمنظومة ثوريــة ذات تجربة
ثانيــاً: في ظل الانهيار السريع للأنظمة سارعت القوى التقليدية لتصدر موكب الثورات والظهور على حساب الجماهير الفاعلة في الشارع العربي بينما هذه القوى كانت حتى اللحظات الأخير جزء من النظام الديكتاتوري وشريكة فاعلة معه في الظلم والفساد ونهب الثروات مما أدى إلى التناقض في المسار الثوري
ثالثـاً: تدخل قوى إقليمية وخارجية ذات أنظمة شمولية وأسرية وراثية تمارس الديكتاتورية في ابشع الصور كقوى داعمة وممولة مادياً وإعلامياً ولوجستياً للثورات الربيعية منطلقة في ذلك من الحقد السياسي وتصفية الحسابات مع الأنظمة العربية, حيث كانت هذه الأنظمة هي التي استقدمت القوى الأجنبية لحمايتها من السقوط وشاركت مع القوى الأجنبية في إسقاط دول عربية ذات توجه وحضور فاعل في القضايا العربية المصيرية.
رابعـاً: الانتقام السياسي والشخصي للأنظمة الديكتاتـورية العربية كل على الأخــر وجد في الربيع العربي أرضية خصبة للانتقام رافق ذلك صدور الفتـاوى الدينية " صكوك الغفران " بوجوب الاستعانة بالقـوى " الأجنبية للتخلص من الأنظمة تحت مسمى الثورة كما حصل في الحالة الليبية والتي أسميتها بـ " ثورة الناتو
خامسـاً: بروز سياسية المصالح وتناقضها بين الدول الداعمة لثورات الربيع العــربي ومواقفها المتأرجحة من الثورة تارة ومن الأنظمة أخرى مما أدى بالقوى المحلية المغادرة للأنظمة الساقطة والتي تزعمت الجانب السياسي للثورات إلى القبول بالتسويات والانبطاح أمام المبادرات التي تلبي أجندت الدول الداعمة للثــورات, وهنا استطاعت بعض الأنظمة تحويل الحالة الثورية ونجحت بتوصيفها بـ " الأزمة السياسية " بحيث أجبرت ما سُمي بالجناح السياسي المفاوض باسم الثورة على التوافق والشراكة في السلطة, مفرغة بذلك المسار الثوري من المفهوم والهدف معاً كالحالة اليمنية التي كانت في المعارضة شريكة للنظام في فساده وحروبه.
سادسـاً: بروز تيار سياسي معين كقائد في ثورات الربيع العربي, عمل بغباء سياسي على تحييد وإقصاء شُركاء العمل الثوري الجماهير بمختلف توجهاته الفكرية والسياسية من خلال الانتهازية والانقضاض على السلطة في عملية سياسية ديمقراطية الشكل مفرغة المضمون والهدف العام مستغلة بذلك حجمها التنظيمي والمادي وهذا أدى إلى حالة من الامتعاض ونضوب الثقة بين رفاق العمل الثوري, وبالتالي أتاح الفرصة الكبير لبروز ما يسمـى بـ الثورة المضادة تحول بعض الدول الداعمة للثورة الربيعية إلى تصدر الدعم الكبير لقوى الثورة " المضادة والتي تمكنت بعضها من أسقاط قوى الثورة الربيعية بثورة مضادة ناجحـة كالحالة " الـمصرية
سابعـاً: بروز سياسية التدخل في الشؤن الداخلية للدول من الأنظمة الموالية لثورات الربيع العربي ومطالبتها بالتدخل الأجنبي الواضح من خلال قرارات ما كان يُسمى بـ " الجامعة العربية " المغادرة موقعها والمخالفة لميثاقها العام بالإضافة إلى أن غالبية الدول الداعمة للثورات العربية لها علاقات دبلوماسية مع الكيان الصهيوني وهذا أدى إلى انحسار المد الجماهيري وترشيد الثقة بالقوى التي تصدرت الفعل الثوري ومارست على الواقع نقيضه لاهثـة خلف كرسي السلطة على حساب قوى التغيير الحقيقي والتي ادركت بعض قواه العملية الانتهازية ومخاطرها على وحدة وأمن الأوطان
ثامنـاً: في ظل الفشل الذي جسدته حكومات الربيع العربي وجدت القوى الإرهابية أرضية خٍصبة للتمدد في أقطار الربيع العربي ومارست كل أساليب الجريمة من القتل والذبح والتصفيات ونشر ثقافة الرُعب والانفلات الأمني وانتشار الجريمة بكل صورها الهولاكية والفاشية مما افقد المواطن الثقة بهذه الحكومات, والتي لم تكن تمتلك مشروع وطني يُعبر عن التغيير بسلوك حضاري رافق ذلك بروز ثقافة الطائفية " التي مزقت الكيان الاجتماعي وجسدت الطموح بمفهوم الاستقلالية مباركة وباصمة على مشاريع التجزئة تحت مُسـمى " الفيدرالية " الخاضع للوصاية الخارجية والإدارة المباشرة للقوى الأجنبية والمحقق لأجندة القوى الإقليمية الرجعية ذات الطابع السياسي المعادي للتقدم والمدنية, ومن هذا المنطلق بات المثقف العربي يكفر بالتغيير على غرار الحالة السورية والليبية وأخواتها ويطمح بالتغيير من خلال السلوك الوطني الحضاري الذي ينتج عن الإرادة الشعبية دون التدخل الخارجي أو الارتهان إلى قوات الناتو والاعتماد على القوى التقليدية ذات المرجعيات الأحادية وعليه فأن الثورة الجماهيرية الحقيقة تظل مستمرة كاستحقاق وطني للتخلص من الأنظمة القديمة المعارضات المستنسخة منها , تظل الثورة مستمرة تحت شعار الشعب يريد الحرية وبناء الدولة المدنية.
علي السورقي – شيفيلد المملكة المتحدة
الربيع العربي بين السقوط والإلغآء 2283