بعد نشر مقال الأسبوع الماضي في صحيفة الرياض الغراء والمعنون ب(هل يتعظ جنوب اليمن من جنوب السودان؟) وصلتني جملة من الملاحظات كما قرأت العديد من الآراء والتعليقات على المقال المشار إليه لكتاب وسياسيين والتي وإن تراكمت فيها الكثير من النقائض فإنها قد أجمعت في مؤشراتها على أن اليمن يسير في اتجاه متعرج لا يختلف عما نراه من أحداث في العراق وليبيا وربما في سورية والتي تدل في مجملها على أننا أمام (سايكس بيكو) جديد لتقسيم المنطقة, لكنه تقسيم هذه المرة سيكون أسوأ من مجرد تقسيم الأرض لأنه يتضمن تقسيم البشر على أساس الهوية المناطقية أو المذهبية أو القبلية.
لم يكن أحد ربما يتوقع بعد خروج اليمن من نفق الأزمة السياسية التي شهدها في إطار الربيع العربي أن ينغمس بعض أبنائه في نبش الماضي من خلال إعادة التخندق والتمترس وراء هويات تجاوزها الزمن بعد أن ظن الكثير أن اليمن التي توحدت عام 1990م في نطاق مفهوم الدولة الوطنية الواحدة والهوية اليمنية الجامعة أصبحت لا تقبل القسمة إلا على نفسها وأن اليمنيين الذين عانوا من ويلات التشظي والتفكك لن يرضوا إلا بأن يكون وطنهم رقماً لا يقبل القسمة على اثنين أو أكثر لكونهم بعد أن استفادوا من دروس الماضي ومن تجارب الآخرين وآخرها انفصال الجنوب السوداني عن شماله والذي دخل حرباً طاحنة ستستمر ثاراتها تتفاقم لعشرات السنين.
والمثير للاستغراب أنه وبعد عشرة أشهر من الحوارات والنقاشات التي شاركت فيها مختلف أطياف المجتمع اليمني وما انتهت إليه تلك الحوارات من توافقات على تفاصيل خارطة المستقبل والتي بموجبها سيتم الانتقال من الدولة المركزية إلى النظام الفيدرالي الذي سيمنح كل منطقة ومحافظة استقلالية تامة في إدارة شؤونها أن يتخذ البعض من هذا التحول مبرراً له للتنصل من الهوية الوطنية الجامعة بالهروب إلى هويات فرعية كما هو شأن أولئك الذين استبدلوا هويتهم اليمنية بهوية (الجنوب العربي) رغم علمهم أن تسمية (الجنوب العربي) تعني جنوب الجزيرة العربية وأن هذا الجنوب يضم اليمن شماله وجنوبه وشرقه وغربه ناهيك عن سلطنة عمان والامارات وربما يصل الى قطر وكذا إدراك هؤلاء بأن جنوب اليمن إذا ما انفصل عن نصفه الآخر فانه الذي سيتمزق الى دويلات وسلطنات ومشيخات وذلك أمر تبدو ملامحه واضحة في الدعوات التي تنادي باسترداد هوية حضرموت ككيان مستقل عن اليمن بشقيه الجنوبي والشمالي لكون حضرموت قد ضمت قسراً إلى جمهورية اليمن الجنوبية عام 1967م رغم حصولها على الوعد بالاستقلال ضمن مقررات الاستعمار البريطاني في جنيف خلال ذلك العام.
يخيفني ما يجري في اليمن والذي يستعر بحمى التنافس المرئي والمستتر بين أطرافه على الهروب من فلكها الوطني الواحد إلى أفلاك التشتت والتشظي وفقدان التوازن كما يخيفني ذلك الانحطاط الذي يتفتق عن مكائد وسموم الهوية والهوية المضادة والتي لا تكتفي بالإبقاء على هذا البلد يدور حول نفسه بحركة متكررة تشبه رقصة الدراويش، بل إنها من تعيده إلى جاهلية ما قبل التاريخ، وأخشى أكثر أن يفرز الحوار صيغة فيدرالية تكون مقدمة لانفصال ناعم يلد سلسلة من الحروب القبلية والجهوية على غرار حرب قبائل الدنكا والنوير في جنوب السودان إن لم تأخذ طابع حروب داحس والغبراء التي تعد مثالاً سيئاً ومعبراً عن ضحالة العقل العربي.
الرياض
علي ناجي الرعوي
اليمن..متاهة النبش في الماضي 1990