تعتبر مناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف من أهم المناسبات الإسلامية للتأملِ في أحوال الأمة الراهنة وواقعها، وعرض ذلك على ما تركَنا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، واستشرافِ مستقبلها، والتفكير في الحلول للخروج بها من أزمتها، ورسْم الخطط للنهوض بها، كي تستردَ العزةَ المفقودة، وتنالَ الرفعة والمكانة اللائقة بها بين الأمم، وتصل إلى المقدمة وتصبحَ محط تقدير واحترام .
فيجتاح القلوب حنين جارف لرسول الله صلى الله عليه وسلّم في ذكرى مولده الشريف، وتذوب تلك القلوب التي تحمل في طيّاتها إسلام وإيمان، وقد أحزنها ما تراه من حال الأمة التي تنهشها أنياب البغي، وتطعنها حراب الكفر، وتهدم بنيانها فأس الفرعنة والاستعلاء، في حرب دائبة الدوران، تنعق في ساحاتها غربان الحقد وتنعب في أطرافها أصوات الطائفية والصليبية والصهيونية، تمدّها قوى الشرّ المعادية لله وللإنسانية وللحقّ بكل صور الدعم ظاهره وباطنه .
وتحنّ القلوب للحبيب وهي تذكر قوله صلى الله عليه وسلّم في مجلس تذكير وإشفاق وفي المجلس أبو هريرة رضي الله عنه, وها هو يروي الحديث قائلاً:{ سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لثوبان :(كيف بك يا ثوبان إذا تداعت عليكم الأمم كتداعيكم على قصعة الطعام تصيبون منه؟. قال ثوبان : بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أمن قلة بنا ؟ قال : " لا، أنتم يومئذ كثير، ولكن يلقى في قلوبكم الوهن " . قالوا : وما الوهن يا رسول الله ؟ قال : " حبكم الدنيا وكراهيتكم القتال ) .
وها نحن يا رسول الله نرى قولك الكريم واقعاً ملموساً، فالأمة تصارع أعداء كثر، غايتهم واحدة هي القضاء على بيضة الدين، واستئصاله من الوجود، ووسائلهم لا تنفذ، فتارة هي فكر عفن لناقص العقل، يشكك في الحق ويهزأ به, وتارة هي لهو وفسق يتيه فيه العقل وتلهث وراءه القلوب الفارغة وقد تلوّن بألف لون ولون، وتنمّق بعبارات الزيف ومسمّيات الباطل، والفساد يمده بحر المكر والفتنة والنفاق، واحيناً هي آلة القتل والحرق تعمل في الأمة عملها، تبيد وتفني وتقتل دون حسيب ولا رادع .
وتستفيق الأمة بعد سبات وقد علا دخان محرقة أصحاب الأخدود في بورما وكشمير والهند، وعلا صوت استغاثة مسلمي ميانمار ومن قبلهم مسلمي روسيا الذين هجرتهم قوى الصهيونية والشيوعية الحاقدة، وفي آسيا ينبعث لهيب المعارك الطاحنة في حركات التصفية العرقية والدينية، في الفلبين والصين وتركستان وأفغانستان، وهناك الجرح النازف الذي ظل يقطر دماً طهوراً قرناً من الزمان دون أن تقدر الأمة على نزع الخنجر المغروس في جنبها، جرح فلسطين الذي يراد منه تركيع الأمة وإذلالها وتدنيس مقدّساتها، وقد شرّد أهلها وأسر رجالها وذبح ضعفاءها في أكثر من قرية ومخيّم، ولكنها تستمر في بطولاتها وصمودها لكي ترفع حرج الإثم عن الأمة بأسرها .
وفي مصر يجري النيل مصبوغاً بدماء أبناءه أولئك الذين وقفوا بوجه الفساد والبغي، ويهتفون للحرية والعدالة والكرامة، ولا يعطون الدنية أبدا من دينهم أو وطنهم أو شرعيتهم، ويرفضون التسليم والانهزام والانكسار، والنيل الطهور يرقب الغد المشرق، والأمة بأسرها ترنوا إلى مصر الكنانة، وتتطلّع إلى شام العزّة، وآه للشام، ولجرح الشام، حين ظلّت فيها أوجرة الثعالب الطائفية تتجبّر وتعلو وتغلو، وتعتدي وتقتل وتفرّق، وتدوس كل القيم الإنسانية والربّانية، مؤيدة بكل قوة باغية أثيمة، وأهلها صابرون ومتصابرون، والله مع الصابرين .
وتهلّ الذكرى يا رسول الله، وأمتك تطرق أبواب الفتح، تترقّب وعد النصر ولحظات التمكين، تمتشق حسام العزّة والحريّة، تتغنّى بالقرآن وتحمل فيض النور، تتلمّس درب المجد وتصدح بالتكبير مآذنها، تتلهّف تلك الأرواح المشتاقة للقياك، للاستشهاد، يمضون سراعاً للجنات، لتحطّ الأرواح، بحواصل طير خضر، تتعلّق بغصون الجنّات، وقناديلاً تغدو تلمع بالنّور تضيء الجنّات،
والأمة ما عادت ترضى أن تبقى قصعة، ترتاد لصوص الأرض حماها، ما عادت تهن ولا تحزن، وانتسبت حقاً رايتها لرسول الله، وبرغم القتل وبغي الفرعنة المبثوث بكل مكان، قالت امتنا كلمتها لا للفرعون، ولا لأبي جهل ومسيلمة الكذّاب، لا لابن سلول، ما عادت امتنا بالنّصر تشكّك أو ترتاب، والباطل مهزوم مخذول، والحق سيعلو منتصراً، وليخسأ من ينعق بهتاً، أن الإسلام هو الإرهاب .
وتعود الذكرى يا سيد الخلق، وقد اشتاقت لك الأرواح، وتعاهدت على نصرة سنتك القلوب، واستيقنت الأمة أن العزّة لا تكون إلّا بالإسلام، وأن النصر مع الصبر، وانطلقت تعلنها للدنيا، انّك قدوتنا وحبيبنا وقائدنا ومرشدنا و أننا وعينا درس القرون الماضية، وانتبهنا بعد غفلة، فلا يأس ولا قنوط ولا استسلام ولا انهزام، ولا قعود عن الدعوة لهذا الدين والتبشير بعودة عزه وانتصار المسلمين، لأن أمتنا أمة عظيمة، تمرَض ولا تموت وتنام وتستيقظ، ويتخدر أبناؤها ويصْحُون، جعل الله فيها من يجدد لها دينها وأمرَها ويحقق عزها، وأمتنا أمة خالدة مباركة، الخير منها ومن أبنائها لا ينقطع إلى يوم القيامة، ونبضُ الروح والحياة لم ولن يموت فيها، قال الرسول يؤكد ذلك: ( أمتي أمة مباركة لا يُدْرى أولها خير أو آخرها) ، ولن يُعدم منها المصلحون والمدافعون عنها إلى آخر عهدها، وإن الدين يبقى مطموراً في الفِطَر ومغروساً في القلوب ومؤصلاً في النفوس وسرعان ما يظهر ويزهر ويثمر، فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسراً .
رائد محمد سيف
أحوال الأمة في ذكرى المولد النبوي 1674