إذا قيمنا تأثير القرآن في إطار العلاقات الإنسانية- سواء بشكل مباشر على المسلمين أو بشكل غير مباشر على الحضارة الإنسانية- نرى أن القرآن عالج أهم مشكلة في هذا العصر, كما قال يماني, وهي "مشكلة الصراع بين الفرد والجماعة" هذه القضايا تحتل مكاناً رئيسياً في المجتمعات الحضارية وتشمل أغلب جوانب الحياة, فإذا كانت علاقة الإنسان بخالقه هي المحور الذي يدور حوله الوجود الإنساني, فالعلاقات الإنسانية هي الشرط لنجاح تجربتنا في هذا الوجود الإنساني, قال صلى الله عليه وسلم أن الإنسان المسلم لا يكون مؤمناً حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
-القرآن نزل بلسان بسيط يدركه العرب، وما عبارة" بلسان عربي مبين" والآيات المماثلة إلاّ إشارة لذلك, وبالطبع فإننا لا ننكر أن القرآن الكريم نزل لجميع الأجيال والأقوام حتى نهاية العالم، ولا يمكن القول بأن كل دقائقه كانت مفهومة لجميع عرب عصر النزول، وأن القرآن أخذ بالاعتبار إدراكات مخاطبيه كلهم إلى نهاية العالم, بيد أننا لا نوافق أيضاً من يقول بـأن معظم الناس الذين خاطبهم القرآن في عصر النزول لم يكونوا يدركون دقائقه وكنه أعماقه, إذن فبلاغة القرآن الكريم تدل على بلاغة العرب وفصاحتهم، لاسيما إذا علمنا أن إعجاز القرآن يكمن في بلاغته انسجاماً مع هذا الفن الذي كان شائعاً بين العرب حينذاك، مثلما تناسبت العصى مع سحر السحرة، وعيسى مع الطب، وهكذا بالنسبة لباقي الأنبياء، حيث شاءت السنن الإلهية أن تكون معجزات الأنبياء ملموسة لأممهم, ومهما يكن من أمر، ورغم أننا نوافق بعض الموافقة شكوك "طه حسين" وغيره في صحة انتساب أشعار الجاهلية إلى شعراء الجاهلية، إلاّ أننا لا نستطيع أن ننكر بلاغة العرب وفصاحتهم وقدرتهم الفائقة على قول الشعر، بل علينا أن نعترف أنهم بلغوا مبلغاً متكاملاً في هذا الفن بحيث باتوا يستطيعون إدراك سر الإعجاز القرآني.
الأمر الذي أصبح فيما بعد موضع خلاف حتى بين العلماء كنتيجة للاختلاط مع باقي الأجناس واللغات واللهجات, بلحظ ما قلناه، فإن مما لا شك فيه شيوع فن الشعر عند العرب الذي ارتقى لديهم إلى مستوى رفيع، وما الأشعار والقصائد الكثيرة التي وصلتنا ومنها (المعلقات السبعة) إلاّ دليلاً على عظمته عند العرب.
-القرآن جاء بتغييرات في الجانب العقدي والجانب الدنيوي من تنظيم علاقة الناس ببعضهم سواء من نواحي اجتماعية أو مادية أو سياسية, فكانت هناك الثوابت أو الخطوط العريضة لمنهج إنساني متكامل لحياة البشر فكان من أثر تطبيقه أن خرجت للعالم أمة قد برعت في جميع مجالات الحياة, فقد نص الله في كتابه الحكيم على منع بعض المعاملات المالية مثل القمار والربا والتشجيع على غيرها, ووضع القوانين لنظلم الملكية بحيث تتناسب مع فطرة الإنسان لكن لا تجعل مصالح الفرد تطغى على مصالح الجماعة.
عند تدبر القرآن الكريم نقوم أولاً بتدبر الآية، فإذا فهمنا معانيها يصبح من السهل علينا بعد ذلك أن نربط بين آيةٍ و أخرى, وبعدها يفترض أن نلحظ أنّ آيات السورة جاءت في مجموعات، فإذا فُهمت معاني المجموعة الأولى، ثم فُهمت المجموعة الثانية، أمكن أن نربط بين معاني المجموعات, وبعد أن ننتهي من فهم سورة كآل عمران، مثلاً، نقوم بتدبر سورة النساء، فإذا فهمناها؛ كلمات وجُملاً، وآيات، ومجموعات، أصبح بإمكاننا أن نربطها جميعاً بسورة آل عمران التي تسبقها, ولا يسهل علينا أن نربطها بسورة المائدة، التي تليها، حتى نتدبر سورة المائدة أيضاً، وذلك في مستوى الكلمات، والجمل، والآيات والمجموعات؛ فكمال الفهم للسورة الأولى، و كمال الفهم للسورة الثانية، يؤدي إلى استكشاف الروابط والصلات بين السورتين، وهكذا... وتكون المفاجأة أن نكتشف أنّ القرآن يفسر القرآن، ويتجلّى لنا بناءً متكاملاً متراصاً. وسيبقى الإنسان ينظر في تفاصيل هذا الكتاب العظيم في محاولتهِ لتصوّر البناء الكلي في صورة أفضل، كما يفعل وهو يحاول أن يفهم الكون.
ابن حزم الظاهري فقيه ومجتهد أندلسي، عاش قبل ما يقارب ألف سنة, له في الفقه كتاب موسوعي هو (المُحلى), قرأنا له رأياً في اختيار الخليفة خلاصته أنّه إذا جاء زمان نستطيع فيه أن نصل كل فرد من رعايا الدولة نسأله عن رأيه عند اختيار الخليفة فيجب علينا شرعاً أن نفعل ذلك, وهذا يعني أنّ مجتهداً اشتهر بأخذ ظواهر النصوص يرى أنّ الشريعة تُوجِب مشاركة الأمّة في اختيار الخليفة, ولكنه يعلم أنّ ذلك غير ممكن في عصره، بل هو أقرب إلى الاستحالة، لذلك نجده يتخيل عصراً تتوفر فيه هذه الإمكانيّة, عندها يصبح الأمر واجباً, ومستند مثل هذا القول هو بدهيّات وأبجديّات الفقه الإسلامي, فمعلوم أنّ الخليفة يجب أن يكون مَرْضِيّاً من الأمة، ولا بد أن يكون الرضى حقيقياً جوهرياً لا شكلياً، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها, فإذا اعتذر بعض القدماء من الأجداد، عندما اقتصروا على رأي أهل الحل والعقد في اختيار الخليفة، بضعف وسائل الاتصال والقدرات التنظيميّة والإداريّة، فبماذا نعتذر نحن اليوم؟.
الرضى أساس: في مسألة اختيار الحاكم هناك ثابت، وهناك متغيّر؛ أمّا الثابت غير القابل للتغيير مهما اختلف الزمان فهو أن تكون الأمة راضية عن الخليفة، وأن تكون هي التي تختار، بغض النظر عن الوسيلة المعبرّة عن ذلك الاختيار, أمّا المتغيّر، فهو الوسائل التي يتم بواسطتها أخذ رأي الأمّة والتحقق من رضاها الجوهري الحقيقي, ومعلوم أنّ الوسائل القديمة لا تستطيع أن تحقق ما تحققه الوسائل المعاصرة, وقد تتطور الوسائل والخبرات بشكل أفضل مما هي عليه اليوم، فهل يجوز لنا شرعاً أن نتوقف عند وسيلة وأسلوب بعينه، بحجة أنّه كان معمولاً به عند السلف الصالح ؟ المطلوب الرضى الحقيقي للأمّة، ويُعبّر عنه اليوم بالاختيار الحر.
ويجب علينا أن نتوسّل بالوسائل التي تجعلنا نتحقق من ذلك بنسبة 100%, ولكنّ ذلك غير ممكن، فيكون البديل عنه بذل غاية الإمكانيّة، والتي قد تكون في عصر من العصور معبّرة عن الواقع بنسبة 50 %, وفي حال تطور خبراتنا وإمكاناتنا وأساليبنا وطرائقنا بحيث تصبح معبّرة عن الواقع بنسبة 70% فلا يجوز عندها أن نلجأ إلى الأسلوب والطريقة التي تعبّر بنسبة 50%, بالطبع لا يجوز ذلك، لأنّ الواجب التحقق من الرضى بنسبة 100%، والقبول بما هو أدنى نوع من التيسير، لأنّ الله تعالى لا يُكلّف نفساً إلا وسعها، ولا يكلّفها إلا ما آتاها, وعليه فإذا تطورت وسائل الانتخاب والاختيار فيجب علينا شرعاً أن نتمسّك بالوسائل الجديدة باعتبارها الأقرب إلى تحقيق ما أوجبه الشرع, وزيادة في الإيضاح نطرح السؤال الآتي: هل يجوز لخليفة معاصر أن يقاتل بالسيف ويترك وسائل القتال المعاصرة بحجة أنّ السيف كان سلاح السلف الصالح؟.
د. عادل عامر
أثر القرآن في تحرير الفكر البشرى 1679