لا أعتقد أن هناك موضوعاً مجتمعياً يحمل قدراً من الأهمية القصوى كالذي يحمله موضوع التفكير البناء والإيجابي الذي يعود بالنفع الكبير على المجتمع وأبنائه الكرام، في محاولة من الفرد الإيجابي لأن يكون مبدعاً, أن يكون إنساناً كبيراً في تفكيره وتأمله لكثير من القضايا التي تمر أمامه, بينما يعيش بين أفراد مجتمعه.
وهنا لا بد لي من الوقوف أمام أجمل عبارة سمعتها حول هذا الموضوع تقول في مجملها بأن أجمل ما في التفكير المبدع، هو أنه يعبر عن قوة الرؤية المستقبلية، ويعطي أصحابه ملكة جيدة على التنبؤ بالقادم، أو القدرة الذهنية على إيجاد الترابط والاتصال بين أجزاء الأعمال والخطط المختلفة, وتتمثل هذه الملكة لموهبة رؤية الذات بشكل منطقي ومتوازن ثم رؤية الغير كذلك، بلا إفراط أو تفريط ولا غرور ولا تهاون.
ومثل هذا الكلام يشدنا إلى الحقيقة المجتمعية المطبقة والتي تقول بأن مواطن التطوير الذاتي تعترف بالقدرات الإبداعية لدى الأفراد بشكل أحادي أو جماعي، لأنها في مجموعها تشكل جوهر القيادة الذاتية الخلاقة التي تتكون من قدرات ليس أقلها "رؤية الذات" رؤية تحليلية قويمة تشخص أمراضها وتضع معالجاتها وتتعرف على نقاط قوتها ومكامن ضعفها، من خلال "الضمير النزيه" الذي يمثل جوهر الالتزام بالقيم الإنسانية ومكارم الأخلاق والجوانب النبيلة التي تبني شخصيات الناجحين في الحياة والمجتمع، ومثل هذا الأمر لن يكون مالم تكن "الإرادة المستقلة" سيدة الموقف في قوة العزم والتصميم والحسم في التنفيذ بلا ميوعة أو تردد أو تهاون، وهي أكبر قدرة يمتلكها كل إنسان لدى مصارعة الحياة للحصول على ما يريد، أما الأهم من كل ذلك فهو "الخيال المبدع" وتمثله قوة العقل المتمثلة بدورها في التفكير الإيجابي والتأثير النفسي على اكتشاف مناطق الفراغ وملئها بالفكرة أو الخطة أو الإنجاز المناسب.
إن الكثير من الأفراد يكونون مبدعين إذا وجدوا أجواء مشجعة لذلك، وهذا لا يتم إلا إذا كانت الأجواء تسامحيه والميدان مفتوحا للتنافس الحر، أما الأجواء المغلقة، فإنها لا تجيد أن تصنع من أفرادها عناصر مبدعة..
إن كثيرا من مشاهد التفكير الإيجابي تسترعي فينا الإعجاب وتفرض علينا رفع قبعات التقدير والاحترام لكثير من هذه الشواهد التي نسمع عنها كثيراً، وهذا الذي يجب في زمن كثرت فيها السلبية التي أصبحت لا تفارقنا وطابورها لا يكاد ينتهي إذا ما ذهبنا لاستعراضها في حياتنا اليومية، فقط انظروا لأصحاب المصالح الذي أصبحوا وباءً يزكم الأنفوف، واستطاعوا بما يملكونه من ثقافة سلبية أن يكونوا ظاهرة ينظر لها بازدراء..
دعوني اليوم أعزائي القراء أسوق لكم مثالا رائعا لمثل هذا التفكير الإيجابي والبناء الذي يريد منه أصحابه أن يكونوا كبارا في تفكيرهم، ومبدعين في تأملهم ونظرتهم للأشياء وكل شيء حولهم..
في إحدى قرى محافظة تعز كانت تقطن فتاة من أسرة متواضعة, لوعورة الطريق التي تصل هذه القرية بمدرسة المنطقة, لم يكن البنات يكملن تعليمهن لسوء الظروف والأحوال التي يعيشها أبناء هذه القرية، فقط من تيسرت لها الدراسة الجامعية بنت عرف عنها الورع والعفاف والجدية، أسرتها كريمة بسيطة، أبواها من أسرتين بسيطتين، وهي مع ما أشهرت به عرفت به جمالها بين قريناتها، تقدم لها الكثير من أبناء قريتها، لكنها كانت ترفض بحجة عدم التكافؤ العلمي بينها وبين من يتقدم لها..
وفي إحدى المرات تقدم لها أحد أبناء قريتها المغتربين المشهود له أيضا بالصلاح والالتزام، تقدم لها لعلمه أنها الأنسب له لسمعتها الطيبة وتعليمها الذي كان يبحث عنه، ولأنه ممن فتح الله عليهم، أخبر أسرة البنت عن طريق والديه بأنه مستعد لأن يدفع الذي يريدون, المهم أن يوافقوا خوفا منه أن تضيع بنت الحلال من بين يديه، عرض عليها الموضوع، اطمأنت لمن تقدم لخطبتها، لكنها فاجأت الجميع بأن مهرها غال جدا فقط تريد منهم أن يوافقوا عليه حتى توافق، وافق الطرف الآخر، لقد طلبت أن يكون مهرها هو بناء خزان ماء لأبناء القرية حتى تكفي النساء من الذهاب بعيداً لجلب الماء، وحتى تيسر لهن شيئا من قسوة الحياة التي ضربت بأطنابها عميقاً في حياة بنات القرية..
أعجب والد الفتاة من منطق البنت التي آثرت حاجة بنات قريتها عن حاجتها، بل وافق والد المتقدم لخطبتها، وفوق ذلك أعطاها مهراً كالذي يعطى لبنات القرية، ولم يتم العرس إلا بعد الانتهاء من بناء الخزان الذي فرج كثيراً من هموم أبناء القرية..
أعرف أن البعض- وهو يقرأ مثل هذا الكلام- سيذهب به تفكيره بعيدا، وربما لن يصدق هذه الواقعة، وأنا أقول إن مثل هذه الواقعة حدثت فعلاً وعلى من يريد أن يتأكد بأن هناك ثمة أناس يعيشون بمسئولية في تفكيرهم، ونظرتهم لأبناء مجتمعهم ما عليه سوى السؤال عن هذه الحادثة عند أصحابها.
إشراقة
ويا وطني لقيتك بعد يأس * كأني قد لقيت بك الشبابا
وكل مسافر سيئوب يوما * إذا رزق السلامة والإيابا
ولم أر مثل شوق الخير كسبا *** ولا كتجارة السوء اكتسابا
ولا كأولئك البؤساء شاء *** إذا جوعتها انتشرت ذئابا
ولولا البر لم يبعث رسول *** ولم يحمل إلى قوم كتابا
مروان المخلافي
الإبداع في أن يكون الإنسان كبيراً في تفكيره 1238