من يدقق النظر بعين العقل في أسباب النهوض والتطور التاريخي التي قامت بها البلدان التي نكبت في بنيتها العمرانية والتراثية والأخلاقية والقيمية والتاريخية، يدرك أنها قامت من نكبتها وكبوتها في ظل ظروف غاية في التعقيد والسوء، وكل ذلك بفضل المسئولية التي استشعرها كل مواطن علم أن دوره يتبارك مع أي جهد يبذل من الآخرين كانوا أفرادا أو مؤسسات، أو حكومات.
ولا أريد أن أكثر الحديث حول هذا الموضوع, أريد فقط أن أقف عند بعض الشواهد, فكلنا يعرف أن اليابان قد تعرضت لأعنف زلزال في تاريخها بلغت قوته تسع درجات على مقياس ريختر، أعقبه تسونامي اكتسحت أمواجه سواحلها التي تجاوز ارتفاعها أكثر من 20 مترا، ثم تلا ذلك العطل الذي أصاب مفاعلات توليد الطاقة النووية وأدى إلى حدوث تسربات إشعاعية، ولقد نتج عن هذه الكوارث وفاة الآلاف من السكان في شمال شرق اليابان وإصابة عشرات الآلاف بجراح وتشرد مئات الآلاف من منازلهم وقراهم، وتضعضع الاقتصاد الياباني الذي كان يمر بمرحلة مهزوزة منذ سنوات.
وكل ذلك قابله الشعب الياباني بهدوء ورباطة جأش وتكاتف ومنهجية وعزم وتصميم مما حفز الجميع إلى استخلاص عشرة دروس تم تبادلها عبر البريد الإلكتروني بين الأصدقاء رأينا أن ننشرها حتى نتعلم من اليابانيين في هكذا أزمات.
الهدوء، أول موقف مسئول نتعلمه من اليابانيين فلم يضربوا الصدور ولم يشقوا الجيوب ولم ينوحون على حالهم وعلى موتاهم أو من فقدوا، والعجيب أن الهدوء كان من مآلاته كنتيجة طبيعية تفشي الاحترام :بين أوساط المنكوبين ، رأينا ذلك من خلال طوابير محترمة للماء والأكل والمشتريات، لم تصدر كلمة جافة أو بذيئة و لا تصرف جارح.
أيضا من أروع الدروس المستفادة من التعامل المسئول لليابانيين أمام محنتهم، القدرة، ولقد تجلت في البيوت والمباني فائقة التصميم والروعة، البيوت والمباني التي فقط تأرجحت و لم تسقط.
ولن ينسى احد ذلك التراحم الذي تجلى بين اليابانيين في محنتهم، الناس اشتروا ما يحتاجونه فقط ليومهم وأزمتهم، ولم يبالغوا في المشتريات، حتى يتسنى للجميع الحصول على ما يريدون، قمة الإيثار، كذلك الرفق، حين شاهد العالم تلك المطاعم التي خفضت أسعارها، كذلك أجهزة الصرف الآلي تُركت في حالها، لا سلب ولا نهب، والقوي اهتم بالضعيف
أما ما لم يفرط به اليابانيون في أحلك الظروف فهو النظام، فلا فوضى في الطوابير أو في المحال، لا تزمر و لا استيلاء على الطرق ولا بلطجة ولا سرقات أو تكسير، الكل يعرف ما يريد والجميع متفهم الوضع.
أما أروع الصور التي شاهدها العالم ونال بسببها التقدير والاحترام فهي التضحية، تجلت في خمسين عاملا ظلوا في المفاعل النووي يضخون ماء البحر فيه، كيف يمكن أن يكافئوا؟
ولم ينسى اليابانيون التدريب، فقد سعوا لأن يعرف الكبار و الصغار ماذا يفعلون بالضبط، و هذا ما فعلوه.
أما إعلامهم فلم يكن كإعلامنا، فلم يلجأ إلى التهويل ولا إلى التهوين من حجم الكارثة بل كانت التقارير الإعلامية متسمة بالهدوء والموضوعية والصراحة، ولا ننسى حياة الضمير، عندما انقطعت الكهرباء في المحال أعاد الناس ما بأيديهم إلى الرفوف قبل أن ينصرفوا من الموقع.
عندما انتهيت من قرائتي لهذه الوصفة قلت سبحان الله كم نحن في اليمن بحاجة إلى أن نعيش بهذه النفوس اليابانية لنخرج من محنتنا التي لا تساوي ربع محنة اليابانيين التي مروا بها، فبالمسئولية تحيا الشعوب
وحقيقة ما دفعني للحديث عن هذا الموضوع هو مراقبتي لمشهد من بعيد وبجواري شخص مع زميله مثلهما مثلي يرقبون المشهد عن بعد، كان في الجهة الأخرى مجموعة من الشباب يقومون بمبادرة شبابية اضطلعوا بها لتنظيف شوارع بعض الحارات، انضمت لهذا الشباب بعض الفتيات، لتبدأ بعد ذلك الهمزات واللمزات والكلام الفاضي البذيء عن هذا الجهد الطوعي الذي أصبح مجتمعنا بحاجة له أكثر من أي وقت مضى، بل إنني ما زلت أتذكر، كيف أنه تم تأسيس ملتقى ثقافي واجتماعي في حارتي، وكان أول عمل يقوم به الشباب المنتسبون لهذا الملتقى هو ردم حفرة كانت تعيق سير السيارات في الحارة، وعندما صدر العدد الأول من المطوية الخاصة بالملتقى والتي تسلط الضوء على الأعمال الخيرية التي يقوم بها الملتقى كتب فيها أن شباب الملتقى يقومون بردم الحفرة التي كانت في وسط الطريق، وصلت هذه المطوية إلى يد أحدهم ممن يسمون بالمثقفين، لم يجد بدا من الاستهزاء بذلك، مبررا ذلك بأن ما قام به الشباب عمل لا يستحق أن يعلن، وبالمقابل وصلت هذه المطوية إلى يد أحد الخيرين ممن فتح الله عليهم، بكل مسئولية قام مشكورا بالذهاب إلى الملتقى والتقى مع القائمين على الملتقى وهو لما يزل مولودا يحبي على الأرض، شجعهم، وبارك جهودهم، وشد من أيديهم وأزرهم, مختتما زيارته بإيداع مبلغ من المال صندوق الملتقى, تبرع له تثمينا لهذه الجهود التي وإن بدت صغيرة إلا أنها كبيرة وعظيمة في ميزان المسئوليات المناطة على كاهل المجتمع، والتي ينبغي أن يضطلع بها الأفراد بالتوازي مع ما تقوم به الدولة من مسئوليات، حتى وإن وجد منها التقصير، فلسنا ملزمين بأن نقابل التقصير بالتقصير.
بالله عليكم أمثال هذا الشباب الطاهر الذي حوى بين قلبيه ضميرا حيا، واستوعب بين دفتيه فكرا واعيا، يستحق أن يعامل بهذا الاستهتار، مجموعة من الشباب والبنات ممن أخذوا على عاتقهم جزءا من المسئولية التي يجب على الدولة أن تقوم بها كاملة أليس من العيب أن يكافؤوا من المجتمع بهذه الطريقة من الاستنكار والهمز واللمز، مشهد جعلني أقول وبأسف شديد إن مجتمعنا مازال بحاجة إلى إعادة النظر في كثير من أفكاره، وتناوله لكثير من قضاياه المعاصرة التي أصبحت عبئا عليه نظرا لتأخرها، ولأنها أيضا لا تسر الصديق، ولا تغيض العدو.
مروان المخلافي
موازين المسئولية.. 1033