الصورة صادمة، ساخرة، خارجة من ألبوم يصلح ان يعرض على مسرح عبثي. صورة طفل صغير يفتش أحد أفراد القوات الخاصة اليمنية، الذي يرفع يديه للطفل، والطفل يتحسس ظهر وجنبي الجندي بحثاً عن أي مسدس قد يكون العسكري خبأه تحت ملابسه أثناء دخوله إلى مقر عمله.
صورة الجندي والطفل فيها المفارقة بين الطفل الذي من حقه ان يكون على مقاعد الدراسة، والعسكري الذي من حقه ان يكون هو حارس المنشأة والوطن كله. هذه الصورة ربما كانت تلخيصاً للمشهد اليمني في صنعاء منذ يوم 21 أيلول /سبتمبر 2014، يوم دخل مسلحو الحوثيين غرفة نوم صنعاء، ومضغوا القات على سريرها، ونهبوا ملابسها الداخلية، وألبومات صورها الشخصية، وانتهكوا حرمتها، ووضعوا صورهم وهم يستبيحون خصوصية صنعاء على حساباتهم في مواقع التواصل الاجتماعي، في واحدة من أبشع مراحل تاريخ صنعاء، تذكرنا بأولئك الذين استباحوها عام 1948 عندما أفتاهم الإمام أحمد حميدالدين بجواز ذلك، لكي يشجعهم على اقتحامها، وإعادة نظام الإمامة بعد مقتل أبيه.
الصورة الساخرة تلخص المشهد الغرائبي اليمني، الذي حير الكثيرين داخل اليمن وخارجه. قال لي صديق عربي: يا أخي فسر لي كيف تمت عملية انقلاب مسلحة دون ان يسقط النظام؟ وأضاف: أليست هي المرة الأولى التي يحدث فيها انقلاب، ويحتل مبنى التلفزيون وجميع المؤسسات الحكومية عسكرية ومدينة في العاصمة، مع بقاء رئيس الجمهورية؟ أليس غريباً ان جماعة مسلحة اجتاحت العاصمة، وسيطرت عليها كلها دون ان تجلي أية دولة دبلوماسييها، أو رعاياها من العاصمة، أو تشعر بالقلق على حياتهم؟
بالطبع، كان بإمكان الحوثيين ان يقتحموا دار الرئاسة، حيث يقيم الرئيس عبدربه منصور هادي، كان بإمكانهم ان يقتحموا السفارة الأمريكية التي هتفوا بموت بلدها سنوات طويلة. لكنهم عوضاً عن ذلك اقتحموا جامعة الإيمان، وذهبوا إلى محمد سالم باسندوة.
لماذا؟
أما لماذا لم يقتحموا السفارة الأمريكية، أو فندق شيراتون القريب منها حيث يقيم جنود المارينز المكلفون بحماية السفارة، فالحوثيون يعلمون ان الأمريكيين لا يتركون ثأرهم، وقد حُمل مدبر الهجوم على القنصلية الأمريكية في بنغازي الليبية، والذي قُـتل أثناءه القنصل الأمريكي، حُمل مدبر الهجوم في آخر المطاف إلى واشنطن، والحوثيون – طبعاً – إنما يفردون عضلاتهم على «عملاء الأمريكيين»، لا على الأمريكيين إنفسهم، تماماً كما يقاتلون الأمريكيين بشعاراتهم وفي أحلامهم فقط، ويقتلون اليمنيين بسلاحهم وفي واقعهم اليومي.
وأما عدم المساس بالرئيس هادي، فهم يريدون ان يمثل هادي غطاء سياسياً لهم أمام الرأي العام اليمني والإقليمي والعالمي، ثم انهم لا يريدون ان يتحملوا مسؤولية إدارة البلاد التي سيتحملونها فيما لو أسقطوا دار الرئاسة، كما فعلوا برئاسة الوزراء. يريد الحوثيون رئيساً صورياً يمررون من خلاله خططهم التي يسعون عبرها إلى الاستيلاء على السلطة دون تحمل مسؤولية هذه السلطة، يريدون قطف الزهرة دون ان يدميهم شوكها في صنعاء، ثم ان إسقاط هادي سيحول دون سيطرتهم على بقية أجزاء اليمن التي يمكن ان «يفتحوها» سلماً بوجود رئيس الجمهورية، من خلال الإبقاء على المؤسسة الرسمية. يريدون ان تظل الدولة تؤدي واجبها الخدمي فقط، وحسب تعليماتهم هم، على طريقة «أمرنا نحن أمير المؤمنين»، التي يبدو ان الحوثيين لم يتخلصوا بعد من سيطرة قاموسها الإمامي.
سيكون من المهين للرئيس ولرمزية مؤسسة الرئاسة ان يعمل هادي رئيساً للجمهورية بمنصب «محافظ صعدة»، سيكون من غير اللائق ان يكون هادي بعقلية تاجر سلاح، وجد نفسه رهينة للحوثيين بعد ان روضوه بشكل كامل، وهذا ما يريده الحوثيون من هادي، يريدون إجراء المزيد من عمليات «المنتجة» على صورة هادي، ليتحول إلى فارس مناع. كنا منذ زمن نخشى مصطلح «اللبننة» الذي كان يعني الحرب الأهلية على الطريقة اللبنانية في اقتتال طوائف المجتمع الواحد. اليوم أضاف الحوثيون إلى مصطلح «اللبننة» بعداً جديداً، وهو ان يكون لنا رئيس شرفي، لا يتدخل في شؤون الحكم، التي قال بدر الدين الحوثي يوماً عنها انها من مهام أهل البيت لانهم «أقوى من غيرهم». هادي في نظر هذه الحركة الميليشاوية العصبوية السلالية ليس من أهل البيت الأقوياء الذين يمكن ان يتحملوا أعباء الحكم، وإمامة المسلمين، والخطة تقتضي ان يكون هادي خليفة عباسيا، يُدعى له على منبر الجمعة، وتصدر باسمه الفرمانات التي يصوغها جعفر بن يحيى البرمكي أو سلطان بني بويه.
في صورة الجندي والطفل المذكورة في بداية المقاله، يرمز الطفل إلى الحركة الحوثية، بينما العسكري هو الدولة اليمنية التي أمسك الطفل بجنبيها، وتحسس مواطن سلاحها بحثاً عنه. دولة في قبضة الأطفال، هذه هي الحكاية باختصار شديد.
والمشكلة ليست في كون الطفل لم يذهب إلى المدرسة وحسب، ولكن في كون هذا الطفل يظن نفسه قد أصبح رجلاً على مستوى مسؤولية قيادة البلاد، في حين ان كل ملكاته، تتركز في فتح أبواب غرف النوم للبحث عن بعض اللعب وألبومات الصور ليتسلى بها. هذه مراهقة سياسية حقيقية، أطفال مسلحون، عقل ميليشياوي كبير، عقل سياسي صغير، عقل مدني أصغر.
ومع كل ذلك، فان عملية تبادل الأدوار بين الطفل الصغير والجندي لم تأت من فراغ، فالكبير الذي رضي لنفسه بمقام الصغار يستحق ان يأتي هؤلاء الصغار للقيام بدوره، حتى وان كنا نعلم سلفاً ان الصغار لا يستطيعون القيام بهذا الدور، والدولة التي لم تدرك ان عاصمتها ستسقط يوم ان سقطت عمران، لا تستحق ان تكون دولة ذات سيادة، والنظام الذي ينخر فيه الفساد لسنوات طويلة، يستحق ان يهان، وان تكون إهانته على يد فاسدين مثله، وان كانوا فاسدين بـ»مسيرة قرآنية»، و»أخلاق نبوية»، و»شعارات تطهرية». ومن نكد الدنيا على الناس: ان تأتي جماعة فاسدة لتطالب بإزالة الفاسدين، وان يرى الأطفال ان مقاعدهم ليست في المدارس، ولكن في الثكنات العسكرية، في الوقت الذي استكان فيه العجاويز في اليمن إلى درجة ان جمعهم عبدالملك الحوثي في ميدان التحرير ليلقي عليهم خطبة متلفزة، تماماً كما يفعل حسن نصر الله مع ساسة لبنان عندما يجمعهم في الضاحية الجنوبية من بيروت ليلقي عليهم محاضراته المكرورة.
الدولة الكبيرة يا سادة لا يبنيها الأطفال، والدولة المدنية لا تأتي على فوهات مدافع الميليشيات، والحداثة لا يمكن ان تخرج من رحم المؤسسات الدينية والقبلية التقليدية، والديمقراطية لن تخرج من كتب بدرالدين الحوثي المعتقة، وبمناسبة توقيع اتفاق السلم والشراكة الوطنية، فان السلم لا تأتي به حروب الميليشيات الطائشة، والشراكة لن يأتي بها الذين هجّروا خصومهم القبليين والسياسيين والدينيين، واسألوا أكثر من ستمئة ألف نازح من صعدة وعمران وغيرهما.
وعندما ترك الجندي دوره للطفل – في الصورة أعلاه فاننا ضيعنا الدورين، دور العسكري الذي لن يقوم به الطفل مهما تظاهر بذلك، ودور الطفل الذي ظل مقعده شاغراً في مدرسته.
عن القدس العربي
د.محمد جميح
صورة الجندي والطفل…تلخيص للمشهد الغرائبي في اليمن 1909