يشير مفهوم الدولة إلى كل كيان سياسي يبسط نفوذه وسيادته على رقعة جغرافية معينة يسكنها جماعات يرسخ لديهم الشعور بالمواطنة والانتماء مع تعزيز مفاهيم السيادة، والسلطة، والحق، والقانون، والحرية ولهذا الدولة ككيان معنوي واعتباري تستمد سلطتها وصلاحياتها من الشعب وفق نظام وقوانين نافذة على الأرض على شكل مؤسسات وفصل بين السلطات.
ومعظم أوطان العالم المتخلف لا تعرف الدولة بل تفرض ما يسمى شكل الدولة على الشعب أو جزءا منه بالقوة أو العنف دون مسوغ قانوني وتفرض نفسها ككيان طبيعي يمارس مهامه كمالك للأرض وما عليها يتصرف فيها كيفما شاء دون رادع من نظام أو قانون أو إرادة شعبية وتُحكم بالفوضى وطغيان الأقوى. فهذه الحالة تحكمها مشاعر القوة والغضب والسيطرة وتفقد مؤسسات الدولة دورها الحقيقي و تُنتهك مهامها وسيادتها واستقلاليتها فتفقد الروح المدنية التي تتسم بالتسامح والتساند والتعاون من أجل العيش المشترك.
الدولة الحقه التي ينتجها التوافق العام لقاطني الأرض التي تديرها تعتمد على مفاهيم مثل الديمقراطية والمواطَنة وحقوق الإنسان ويُلاحَظ أن كثيراً من الناس يتشدقون بهذه المفاهيم لفرط سماعها واستعمالها كديكور ينمِّق شكل الدولة المزورة التي يصنعونها لهم وحدهم تدل على بعدهم الثقافي والسلوكي عنها، ومن ثم فلابد أن ندرك أن بناء الدولة فعل جماعي { الشراكة } يتأسس على الوعي وتمثل الذات والآخرين في حدود الحق والواجب، وأن الدولة وحدها هي من تستطيع أن تمنح الناس الشعور بالانتماء.
ما نحن فيه باليمن من أوضاع متردية وفساد ونافذين متسلطين على رقاب البشر وإرهاب وصراعات مدمرة وأزمة ضمير و انتماء ووطنية هي نتائج لغياب الدولة منذ إعلان الجمهورية في شطري الوطن مع فارق بسيط في شكل الدولة وعند إعلان وحدة اليمن التي اقترنت بالديمقراطية والتعددية ــ وهي أدوات التنمية السياسية ــ لو أُتيحت لها الظروف الموضوعية والذاتية واُستوعِبت بشكلها الصحيح لاستطاع اليمنيون إنتاج دولة بمفهومها السليم الذي أشرنا إليه في تعريف مفهوم الدولة في مقدمة مقالي هذا, لكن فُقدان الشراكة الحقيقية لكل الأطياف السياسية والفكرية والمجتمعية وتضييق مساحة هذه الشراكة بانقلاب طرف على كل الاتفاقيات المبرمة والتنصل منها والعمل على إقصاء الآخرين والاستئثار بالسلطة والثروة ومصدر القرار وإفراغ مصادر التنمية السياسية كالديمقراطية والأحزاب السياسية من أهدافها ومحتواها الحقيقي الذي وُجِدت من أجله وجعلها شعارات مفرغه من المضمون وحولها لأدوات استمرارية الحاكم وسلطة القبيلة والنافذين وقوى الفساد والعابثين بالأرض والحياة الإنسانية كل هذا خلق معوقات كبيرة أمام إنتاج دولة بمعناه الحقيقي على الواقع أهمها:
رسوخ البنية التقليدية للقبيلة علي حساب بنية الحداثة والمدنية, هذا الترسيخ سلط شيوخ القبيلة على مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية وغاب القانون والنظام وصاروا نافذين ورؤوس أموال وبامتلاكهم للسلطة والمال داسوا على القوانين والنظم والمواثيق وصارت الثروة الوطنية متاحة لهم وتحول بعضهم لغول من الفساد وافسدوا في السلطة ووصل الحال إلى أنهم صاروا يحكمون البلد بالعُرف القبلي وضربوا اقتصاد البلد بالتهرب الضريبي والجمركي والتهريب والمتاجرة بكل شيء, متاح لهم المحرمات والممنوعات والبشر والأرض والوطن .
محاربة وإنهاك البنية الاجتماعية للحداثة والمدنية أضعف الوعي الاجتماعي وساهم في ذلك طبيعة المناهج الدراسية ومخرجات التعليم العام والجامعي وفُرص التوظيف والإدارة التي لا تستند وفق المفاضلة العلمية والقدرات والمهارات والإمكانيات بل تستند على الحزبية والمناطقية والمحاباة والوساطة فضعفت الإدارة والتعليم بأنواعه ضعف دور الثقافة والإبداع والفكر والفن والدعم الذي يقدم له يكاد لا يُذكَر جعل المثقفين والمفكرين والفنانين بين أمرين إما أن يكونوا مع الحاكم والموجة ليعيشوا أو أن يتمسكوا بأفكارهم وقيمهم ومبادئهم, فصاروا شبه موتى أي ان ثقافة ووعي اللا دولة طغى على وعي وثقافة الدولة بإضعاف وإفراغ المؤسسات الثقافية والتعليمية من دورها الأساسي والهام في خلق وعي اجتماعي وثقافي بأهمية الدولة واحترام سيادة القانون والنظام والمواطنة المتساوية والعدالة لأن النخب السلطوية قناعاتها وثقافتها تتعارض مع تلك المبادئ بل ترفضها .
هذا الوعي والثقافة السائدة في الوسط الاجتماعي تجده في التكتلات القائمة اليوم على أسس جهوية عرقية وطائفية ومذهبية وغابت التكتلات الفكرية والسياسية وفق الرؤى والمشاريع الوطنية؛ لهذا أُضعِفت الأحزاب وتهمَّش دورها بينما من لديه مشروع مذهبي طائفي سُلالي تلتف حوله أعداد كبيرة من الجماهير والحوثي أو ما يسمى بأنصار الله دليل وضح في هذه الجزئية وقبله كان النظام يدعو الجماهير على هذا الأساس بدعم شيوخ القبائل بهدف ترسيخ النظام السياسي فيما مضى للانتماءات الصغيرة الجهوية على حساب الانتماء الوطني الجامع الذي يكاد أن ينعدم اليوم والشرخ الوطني اليوم عميق بسبب ممارسات وعنجهية الطبقة السلطوية التي حكمة البلد بإنتاج الصراعات فرق تسد والغبن والقهر الذي ترسخ في نفوس المظلومين والمضطهدين.
بعد أن شخَّصنا الواقع المعيق لبناء الدولة الديمقراطية الضامنة للحريات والعدالة علينا أن نخلق ظروف موضوعية وذاتية قادرة على إنتاج هذه الدولة عن طريق التنمية السياسية تساهم في تفعيل أداء الأحزاب السياسية و تعين أهدافها وقيمها التي تناضل من أجل تحقيقها وتغيير الواقع الموضوعي للوصول إليها التي يتوجب عليها أن تتغير وتراجع من سياستها وآليات عملها وتجديد بنيتها المؤسسية وتفعيل نشاطها بين أوساط الجماهير لتتكتل على أسس فكرية ورؤى ومشاريع لتتفوق على التكتلات الجهوية والسلالية والمذهبية يتواكب ذلك في خلق الظروف الموضعية التي لا تقوم أي حركة أو حزب متميِّز ومنظَّم من دونها أي البُنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية التي تخلق ملعباً سياسياً نظيفاً بأسس عادلة تساعد الأحزاب على تطورها وتعين آفاق عملها وقدرتها على التأثير بين أوساط الجماهير.
فشل الأحزاب السياسية الموقعة على المبادرة الخليجية والمشاركة في حكومة باسندوة التوافقية له أسبابه والذي من وجهة نظري لا يتحملها المناضل الوطني الأستاذ/ محمد سالم باسندوة بل الأحزاب وعلى رأسهم الحزبين المؤتمر الشعبي العام والإصلاح فهما حزبان وُجدا وأُسِّسا كواجهة سياسية للقوى النافذة السلطوية فيما مضى ولم تستطع أن تتحرر من هيمنة وتسلُّط تلك القوى لتؤدي مهامها كأحزاب سياسية جماهيرية تحكمها برامج وآليات ديمقراطية مؤسسيه بل تستخدم كواجهة لحماية القوى النافذة وورقة في يدها للضغط السياسي للحفاظ على مصالحها الذاتية وصراعها مع الأخر وهي أشبه بتكتلات الطائفية والسلالية والمذهبية وتخضع لسلطة الفرد في أجنداته ومخططاته وكانت جزءاً من المماحكة فأعاقت التسوية وتنفيذ المبادرة والحوار ومخرجاته, نشعر اليوم أن الإصلاح خلع عن كاهلة تلك القوى وهو اليوم ينتقل إلى أن يكون حزباً سياسياً ولم يتبقَّ غير المؤتمر ما لم يتحرر من سلطة الفرد و"لوبي" الفساد والقوى القبلية النافذة التي تجره إلى صراعاتها للحفاظ على مصالحها الذاتية وتحتمي به والملاحظ اليوم الانشقاقات التي تحدث داخل هذين الحزبين بأسس طائفية يدل ذلك على التكتل الطائفي والعرقي السائد في الساحة السياسية والمعيق لبناء الدولة الديمقراطية الضامنة للحريات والعدالة وأنا على ثقة بأن الحزبين يمتلكان من الكوادر الوطنية القادرة على تحريرهما من سلطة النفوذ القبلي والطائفي والفساد ليتحملا مسؤوليتهما التاريخية في إنقاذ الوطن ممَّا هو فيه والانتقال للمستقبل المنشود.
في ظل الوضع القائم والتكتلات القائمة ووجود النافذين والفاسدين في أوساط هذه الأحزاب لن تنجح أي تسوية أو اتفاق أو حكومة لأن صراع المصالح والفاسدين سيظل ينخر الوطن من داخل الأحزاب السياسية وسيستمر إعاقة بناء الدولة والتكتلات الطائفية والمذهبية والعرقية وسيتمزق الوطن إلى أشلاء متناثر ضعيفة هشة, علينا أن نتجاوز تلك الصراعات وتلك التكتلات ونصطف مع القضايا الوطنية ونؤمن بحق الآخر في الحقوق والعيش والتعايش معاً وفق تكتلات سياسية تحمل أفكار ورؤى ومشاريع وطنية صرفة و التنوع شيء جميل وراقٍ لكن في ظل هوية وطنية جامعة لا تُستبدل بالهويات الصغيرة للقبيلة والعِرق والمذهب.
أحمد ناصر حميدان
الهوية الوطنية الجامعة هي القادرة على بناء الدولة 1605