لا يجادل احد في أن حاجتنا اليوم للمسئولية حاجة ملحة لا تتحمل التأخير أو التأجيل ، بل إن حاجتنا تعظم مع ما يمر به بلدنا من منعطفات وأحداث مفصلية بالغة الحساسية والتعقيد ، ولا نبالغ إذا قلنا أن حاجتنا للمسؤولية اليوم إزاء ما يمر به الوطن أشد من حاجتنا للماء والهواء والغذاء، ودعوتنا للمسئولية نداء يجب أن نستحضر معه مواطن التخلف ، وأودية الضياع التي تهنا في دهاليزها، حتى لم نعد نبصر طريقنا .
كنا وما زلنا وسنبقى نستبشر بالثورة المظفرة التي صنعت كثيراً من وعي المواطن اليمني ، وعدلت كثيراً من سلوكياته ، وجعلت منه شخصا آخر في تفكيره ونظرته لكثير من الأمور المطروحة على طاولة الحوار اليوم ،وهل يشك أحد أننا عندما تشتد الأزمات أكثر ما نكون بحاجة لوجود الرجال الحقيقيين، لأننا في مثل هذه الحالة التي تقع فيها كثير من الهموم على عاتق الوطن نحتاج إلى تثبيت وجل الناس لأننا في مثل هكذا حالة ستتكشف لنا معادن الرجال، بحيث يفضي كل رجل إلى معدنه الخالص؛ ليستبين أمام الوطن وأبناءه هل أمثال هؤلاء الرجال يقفون على منهج مسئول بأقدام راسخة، أم لا .
ولعلنا في كتاب ربنا نطالع مثل هذا المنهج الذي اخذ به نفر من الناس كالتزام أدبي وأخلاقي تجاه أوطانهم والمخلصين من أبنائه فيقول الله تعالى: "وجاء رجل من أهل المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين".
تدبر أخي القاري هذا الموقف المسئول من رجل صاحب مسئولية علم أن الاعتداء على موسى عبر قتله قد يهد بنيان أمة أراد لها موسى أن تعمر حياتها على منهج قويم من خلال تطويعها لله عز وجل. وموقف الرجل هذا وإن بدا بسيطا إلا أن فيه ما يلفت النظر، فالرجل قد آمن بموسى وإيمانه لم يمنعه من تحذير الأخير عليه السلام من مؤامرة تحاك ضده لوقفه عن دعوة الناس لدين الله ، ولا أعتقد أن الرجل لو لم يكن قد تشرب معاني المسئولية سيقوم بموقفه هذا ، فإذا المسئولية تُرَسّخ بعقيدة قوية وتُهَذّب بتربية صحيحة، وتُنَمّى بقدوةٍ ، وقد كان موسى عليه السلام نبي الله قدوة هذا الرجل
من منا لا يتعجب عندما يقرأ أن خالد بن الوليد كان قد حاصر ( الحيرة ) فطلب من أبي بكر مدداً، فما أمده إلا برجل واحد هو القعقاع بن عمرو التميمي وقال: لا يهزم جيش فيه مثله، وكان يقول: لصوت القعقاع في الجيش خير من ألف مقاتل!, فمن الذي جعل منه هذه الشخصية الفذة سوى عيشه في ظلال المسئولية.
ولما طلب عمرو بن العاص المدد من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في فتح مصر كتب إليه : (أما بعد : فإني أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألف : رجل منهم مقام الألف : الزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو، وعبادة بن الصامت، ومسلمة بن مخلد) انتقاهم للقدر الرفيع الذي يتمتعون به من المسئولية ، أما عندما طلب الإمارة أبو ذر الغفاري فقد كانت إجابة النبي صلى الله عليه واضحة إنها لأمانة وإنها يوم القيامة لخزي وندامة ، في إشارة منه إلى عضم مسئوليتها التي قد يضعف إمامها أبو ذر الذي عرف بأن جوانب الفذية لديه تكمن في جوانب غيرها .
إن خير ما يقوم به أفراد لبناء أوطانهم ، وأعظم ما يقوم عليه منهج عملي ، وأفضل ما تتعاون عليه أدوات التوجيه على كآفة مستوياتنا، هو صناعة هذه المسئولية ، وتربية هذا الطراز من المسئولين ، بحيث يكون قادرا على الصمودٌ أمام الملهيات، والاستعلاء على المغريات ، إن سألت عن أحدهم أجابك الآخرون دون تردد بأن مسئوليته صنعت منه صاحب رأيٌ سديد، وكلمة طيبة، ومروءةٌ وشهامةٌ، وتعاون وتضامن.
لذلك كان منهج عمر في حياته تركيزه على أصحاب المسئوليات الذين تنبني على أيديهم الإنجازات الحقيقية فكان حين يريد أن يتمنى لا يتمنى فضة ولا ذهباً، ولا لؤلؤاً ولا جوهراً، ولكنه تمنى رجالاً من الطراز المسئول الذين تتفتح على أيديهم كنوز الأرض، وأبواب السماء.
ففي دار من دور المدينة المباركة جلس عمر إلى جماعة من أصحابه فقال لهم: تمنوا ؛ فقال أحدهم: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءةٌ ذهباً أنفقه في سبيل الله. ثم قال عمر: تمنوا، فقال رجل آخر: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤاً وزبراً جداً وجوهراً أنفقه في سبيل الله وأتصدق به. ثم قال: تمنوا، فقالوا: ما ندري ما نقول يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر : ولكني أتمنى رجالاً مثلَ أبي عبيدة بنِ الجراح، ومعاذِ بنِ جبلٍ، وسالمٍ مولى أبي حذيفة، فأستعين بهم على إعلاء كلمة الله.
رحم الله عمر الملهم، لقد كان خبيراً بما تقوم به الحضارات الحقة، وتنهض به المسئوليات الكبيرة، وتحيا به الشعوب الهامدة.
لرجل صاحب مسئولية أعز من كل معدن نفيس، وأغلى من كل جوهر ثمين، ولذلك كان وجودُه عزيزاً في دنيا الناس، حتى قال رسول الله : ((إنما الناس كإبل مائة، لا تكاد تجد فيها راحلة)).
إن الرجل المسئول كما تقرر الأوطان التي نهضت هو عماد وروح النهضات، ومحور الإصلاح. أعدَّ ما شئت من معامل السلاح والذخيرة، فلن تقتل الأسلحة إلا بالرجل المحارب، وضع ما شئت من مناهج للتعليم والتربية فلن يقوم المنهج إلا بالرجل الذي يقوم بتدريسه، وأنشئ ما شئت من لجان فلن تنجز مشروعاً إذا حُرمتَ الرجل المسئول والغيور على وطنه !!
ذلك ما يقوله الواقع الذي لا ريب فيه.
إن رجلاً واحداً صاحب مسئولية قد يساوي مائة، ورجلاً قد يوازي ألفاً، ورجلاً قد يزن شعباً بأسره، وقد قيل: رجل ذو همة يحيي أمة.
يعد بألف من رجال زمانه …لكنه في الألمعية واحد
واليوم لا أبالغ إذا قلت إن المسئولية يحب أن تكون مطلب يسعى للتجمل بخصائصها أصحاب الهمم، ويسمو بمعانيها الجادون، وهي صفة أساسية، فالناس إذا فقدوا أخلاق المسئولية صاروا وصرنا غثاءً كغثاء السيل ، وخاصة عندما تُغمر خصائص المسئولية بجناية الرجال أنفسهم حين تتفكك المجتمعات .
ونريد أن نركز في الختام على مسألة مهمة مفادها أن في الإنسان صفه جامعه لكل صفات المسئولية ، من اعتداد بالنفس واحترام لها وشعور عميق بأداء الواجب مهما كلفه من نصب وحماية لما في ذمته من بلاد منتسب إليها حببت له وبذل الجهد في ترقيتها والدفاع عنها والاعتزاز بها وإباء الضيم لنفسه ولها.
هي صفه يمكن تحقيقها مهما اختلفت وظيفة الإنسان في الحياة فالوزير الرجل- كما يقال -من عدّ كرسيه تكليفاً لا تشريفاً و رآه وسيلة للخدمة لا وسيله للجاه، أول ما يفكر فيه قومه وآخر ما يفكر فيه نفسه ،يظل في كرسيه ما ظل محافظاً على حقوق أمته.
لن يتربوا إلا في ظلال المسئوليات الراسخة، والفضائل الثابتة، والمعايير الأصيلة، والتقاليد المرعية، والحقوق المكفولة. أما في ظلام التبعية المقيتة، والتمدد المذهبي على حساب وطنية الشعوب وهويتها ، فلن توجد مسئولية صحيحة، كما لا ينمو الغرس إذا حرم الماء والهواء والضياء.
إهداء:
إلى التي جعلت عيني لرؤيتها*سواحلا تتمنى عودة السفن
إلى التي أودعتني في ربابتها*لحنا يجدد شوق الريح للسكن
إلى اليمن أناجيها فتذرفني*على خدود الليالي دمعة الشجن
مروان المخلافي
المسؤولية..كحل لتخلفنا!! 1428