كنت واحداً منكم ذات زمن، أقصد المغتربين.. كنت فقط، ولا أملك شرف الادعاء بأنني لا زلت قريبا منكم مع أنني أظن ذلك، واعتبره مصدر فخر..! كنت حيث رأيتكم أمس، في الرياض تحديدا، لمدة خمس سنوات، حيث ولدت من جديد في المدارس الليلية هناك..! كان بداية ذلك قبل ما يقرب من ثمانية وثلاثين عاما..!
وبعد ذلك، خمس سنوات أخرى في الظهران، جامعة البترول والمعادن، حيث تفتحت الآفاق على عالم جديد في المعرفة والتجربة والناس.. كان خارج الجامعة لا يشبهها كثيراً.. كان جل الطلاب جامعة البترول والمعادن (الملك فهد فيما بعد) عرب سعوديين، سنة وشيعة، وغالبية هيئة التدريس غربيين، أمريكيين في الأغلب، وكذلك كان منهج العلوم ولغة التدريس.. كانت الجامعة تعبّر عن توق الدولة السعودية، في أرقى وأقوى المعارف والتعليم والمهن والتأهيل لأبنائها..
كانت الحرب الباردة في أوجها واليمن لا تزال حينذاك شطرين، لكن الهوية اليمنية واحدة.. قد يسألك أحدهم في ذلك الزمن، هل من الشمال أنت أم الجنوب..؟! وغالبا ما تكون الإجابة: يمني..!
قال أحدهم ذات مرة: توحدوا وخلصونا..!؟
وقد يسألك آخر، زيود أم شوافع، وتكون الإجابة أيضاً: يمنيون..!
في شوارع البطحاء والخبر، كنت لا ترى في الغالب، إلا يمنيين وسعوديين، ولا تكاد ترى أحداً غيرهم..!
مررت بالبطحاء قبل ثلاث سنوات، وشاهدت شوارعها مكتظة بالبشر، ورأيت جل الناس هناك من القارة الهندية، أما اليمنيون والسعوديون فلا تكاد ترى أحدا..!
كانت الأعمال وافرة، الشعور بالاغتراب ليس كثيراً حينذاك، ربما لكثرة اليمنيين وحسن معاملة أشقائنا وتلقائيتهم في ذلك الزمن.. لا وجود لنظام الكفيل ولا نظام التأشيرة، ونادرا ما تكون هناك شكوى من ظلم أو هضم..!
عندما دخلت اختبار القبول للالتحاق بجامعة البترول والمعادن، سألت أحدهم، متى سنبلغ بالنتيجة..؟! فتساءل أنت من اليمن..؟! فقلت نعم، فقال: لا تقلق.. أنتم أهلنا ولكم وضع خاص..! (ولمن يتساءل..؟ كنت أيضا طالباً جاداً..!).
عرفت بعد ذلك أن الشخص الذي قال لا تهتم، هو الأستاذ/ فارس الحربي- مدير العلاقات في مكتب مدير الجامعة ورئيس تحرير صحيفة الجامعة- غالبا ما كنت أراه بعد ذلك من بُعد..
تم قبولي في كلية الهندسة، جامعة الرياض (الملك سعود)، وكذلك في جامعة البترول والمعادن، واخترت الأخيرة، باعتبارها جامعة نخبة النخبة حينذاك، ولغة التدريس فيها الإنجليزية..!
ومنذ بدأ الشيطان يلعب بجزيرة العرب وما حولها ابتداء باجتياح الكويت العزيزة من قبل قوات أخينا صدام وانتهاء باجتياح صنعاء الغالية من قبل مليشيات "حبيبنا" الحوثي تبدلت وتحولت أشياء كثيرة..!
لكن هوى المغترب اليمني وهويته لم تتبدل ولم تتحول.. بقي المغترب يمنيا خالصا يهتف لليمن ويتغنى بها.. ولا شك أنه يبكي من أجلها.. ويفرح ويبتهج كلما سنحت له الفرصة..
كان حضورهم الضخم في الأيام الماضية في إستاد الملك فهد، مبهرا ومشرفا، ويقول للناس: اليمن باقية.. اليمن شامخة وستنهض من بين الركام وستقوم على قدميها من جديد، وستبعث من بين الأنقاض كما تفعل عبر الزمن وطوال القرون..!
قبض المشجعون على قلوبهم وبكت عيونهم خوفاً على الكابتن/ محمد بقشان- الذي نجا من إصابة خطيرة- عاد محمد بعد لهفة وانتظار ليقول: طلب الطبيب التوقف عن اللعب لمدة أسبوع لارتجاج في المخ..! فقال المذيع لكنك عدت لتكمل المباراة.. كيف والطبيب يقول تتوقف أسبوعاً..؟!
فأجاب محمد ابن حضرموت: عدت من أجل اليمن.. أنا فداء لليمن..!
بالتأكيد لا بد أن ألسناً كثيرة قالت: نحن فداك يا محمد..!
كان أشقاؤنا في السعودية أيضاً متفاعلين وكرماء في إشاداتهم بالمنتخب والجمهور اليمني الذي يمثل روح الشعب اليمني الوفي العصي الأبي، وإصراره على البقاء رغم المحن.. تجاوزوا اللوائح لإتاحة فرصة التشجيع لأكبر عدد ممكن من أبناء اليمن في الرياض.. قال أحدهم (مقدم البرامج الرياضية الفراج) أعطوا اليمنيين مقاعد أكثر، عيب تعطوهم 5000 فقط.. كرر كلمة عيب أكثر من مرة، وأضاف: إنهم شركاؤنا في نهضة هذه البلاد منذ سبعين عاما.. وقال آخرون دعوا إخواننا اليمنيين يفرحون.. دعوهم يعيشون أيام ابتهاج بعيداً عن أجواء الحرب والقتل..
اليمن تحتاج بالفعل إلى شيء من الابتهاج والفرح, خاصة في وضعها الحالي، وتتوقع قدرا من المؤازرة والإسناد من أشقائها..
وعلى الرغم مما لمسناه من إسناد ودعم في أجواء الرياضة وعالمها، لكن يبدو أن عالم السياسة والإعلام مختلف.. وإلى حد كبير تشعر اليمن بأنها وحدها في الميدان تحيط بها المصاعب والمحن من كل مكان.. ويبدو أن إيران وحدها تهتم كثيراً بشأن اليمن، ولكن بطريقتها التي لا تناسب أكثر أهل اليمن.. ولست أدري هل كان كلام الرئيس هادي- الذي انتقدته عليه بشدة في المنشور الذي سبق هذا- يدل على أنه فهم وشعر بتخلي الأقرباء والجيران عن اليمن، وأن ليس أمامه سوى التكيف مع مشروع إيران وحلفائها، عندما تحدث عن تطبيع الأوضاع مع الحوثيين وتقبلهم شركاء تحت حراب السلاح وسطوة المليشيا..!
الحقيقة أن كثيراً من الكتاب الخليجين والسعوديين على وجه الخصوص، يطرحون ما يوحي بشيء من هذا. ويتضح ذلك في افتتاحيات صحف شبه رسمية ورأي يكتبه مقربون من دوائر الحكم .. وغالبا ما تكون المعالجات التي يقترحها بعضهم محبطة وغير مكترثة بمصالح غالبية أهل اليمن بل ومصالح الجيران أنفسهم..!
وأذكر أن أحدهم كتب بعد سقوط صنعاء مباشرة ما يوحي بقبول ما أسماه النفوذ الإيراني في اليمن، وكتب رئيس تحرير صحيفة كبرى واسعة الانتشار قائلا: لسنا مسؤولين عن إنقاذ اليمن..! وآخر قال: نحمي حدودنا وبس، وبلاش عواطف ولا بأس من إقامة أكثر من يمن واحد، وثالث، مدير تحرير صحيفة كبرى، عرف بتعاطفه مع اليمن، تحدث عن إقامة منطقة مستقلة تشبه كردتسان العراق..
وهناك قلة لا تزال تتفهم..!
وهناك من يتساءل هل يتأثر أولئك الكتاب المرموقون باللوبيات الإمامية والإنفصالية اليمنية التي تعيش في المملكة منذ أمد بعيد..؟!
في ندوة عقدت في دبي، في 2008 وكانت بعنوان (تأهيل اليمن للانضمام لمجلس التعاون الخليجي) قال أستاذ جامعي سعودي (أشرت إليه في كتابي اليمن والخليج، إرث الماضي وتطلعات المستقل..): أنتم في اليمن تشرقون وتغربون، مرة تذهبون مع مصر الناصرية، وأخرى مع بغداد البعثية، ومرة مع موسكو الشيوعية.. ورددت عليه: اليمن لا ترغب في الابتعاد عن أهلها ومحيطها، وهي قد تفعل ذلك عند ما تطرق أبواب الأقرباء مراراً لكنها تُصد، أولا يرد عليها أحد..!
سبق وأشرت من قبل في هذه الصفحة، عن الاهتمام البالغ الذي لمسناه مباشرة من خادم الحرمين الشريفين الملك/ عبد الله والمرحوم الأمير نايف عند ما كنت مع الوفد الحكومي برئاسة السيد باسندوة .. وقلت بعد ذلك مراراً بأننا متفائلون بميلاد اليمن الجديد الذي تم هذه المرة في الجزيرة العربية ذاتها من خلال المبادرة.. وهو ميلاد قد ينبثق عنه ميلاد لنظام مكين ومتين للجزيرة العربية كلها.. غير أن المرء صار يخشى أن يجهض ذلك الحلم على مرأى ومسمع من الجميع، ويتم على إثره ولاده قيصرية ليمن مختلف، على يد طهران هذه المرة... قد يقول بعضهم لا بأس.. لكن المرجح أن يكون الوليد من ذلك النوع، مشوها ومسخا.
علي أحمد العِمراني
عن الذين لم يتبدلوا..وعن ولادة قيصرية لليمن..! 1581