يخرج الحوثي من سردابه، يعلمنا أمور ديننا، يحدثنا كيف كان الإمام علي شجاعاً وقوياً، وكيف دكَّ باب خيبر، لكنه لا يذكر أن علياً كان زاهداً في السلطة، وأنه حُمل عليها قسراً من قبل الثائرين على عثمان، لا يقول عبدالملك الحوثي لنا إن الإمام علي كان لقبه أبا تراب، لأنه كان ينام على الأرض من غير سرير.
يمضي عبدالملك الحوثي في خطابات مطولة لإثبات أن الخلافة كانت من حق علي، لا لأجل خاطر علي، ولكن ليثبت لنا أن السلطة اليوم من حقه هو، ويتحدث عن الغاصبين للحق، ليقول لنا إن اليمنيين، لا يحق لهم التفكير في الوصول إلى حق آبائه وأجداده. هذا رجل مصنوع من طينة الآلهة، تجري فيه دماؤها، يتكلم وكأنه قدر اليمنيين الحتمي، لا يفقه من الدين إلا ما يراه حقاً له في أرضنا وثرواتنا، ولذلك يفصل كثيراً في حقوق أهل البيت، على اعتبار أن النبي كان ملكاً، وأنه (أي الحوثي) خليفة النبي وولي عهده.
قبل فترة كنت أنزل في فندق في أحد أحياء لندن الشمالية، كان يطيب لي تناول القهوة في البهو، وكانت «بيريانكا» النادلة الهندية تحدثني عن طبقتها المميزة في الهند، وتتكلم عن أجدادها من الآلهة العظام.
بيريانكا، تقول إن البراهما كان جدها، وإنه خرج من سرة زهرة اللوتس، ومنه جاء العالم كله، وجاءت بيريانكا، الربة الهندية التي تسكب لي قهوتي الصباحية، وتحدثني عن دماء الآلهة التي تجري في عروقها.
الفرق بين بيريانكا والحوثي أنها ربة جميلة، تسكب القهوة لنزلاء الفندق، وتنظر إلى آلهتها على أساس أنها جاءت لخدمة العالم، أما الحوثي، فمتجهم الوجه، يريد من العالم أن يقدم له قهوته الصباحية، لأن العالم مخلوق من أجله.
كان السومريون يرون أنهم أبناء الإله «آنو» وزوجته «آنتو»، ومن هذين الإلهين جاء السومريون أهل حضارة الماء، وانحدروا من جبال الآلهة الشمالية إلى جنوب العراق، ليصنعوا واحدة من أزهى الحضارات القديمة، التي لا يعرف عنها الحوثي شيئاً. ملوك الفراعنة كانوا أيضاً أبناء آلهة، ومن أوزيس وأوزيريس وحورس جرت دماء الآلهة في فراعين مصر، الذين بنوا الأهرامات، التي لم يزرها صاحب السرداب.
بيريانكا الربة الهندية الجميلة، تقوم من الصباح لتقدم القهوة للنزلاء بوجه مبتسم، على الرغم من كونها بنت إله. أقول لها مداعباً: يا بيريانكا، يا ربة الهند، لماذا تسكبين القهوة للبشر، وأنت بنت الإله؟ ترد في جدية مفاجئة: لأنني ابنة إله، أسكب القهوة لخلق الله، هذه مهمتي.
تقلب هذه الربة الهندية الجميلة المعايير، وترى في فلسفة بسيطة أن الآلهة ميسرة لخدمة البشر، لأن هذه هي مهمتها الحقيقية، وتقول بأن علامة من تجري فيهم دماء الآلهة من الهنود أن يكنسوا شوارع المدينة، ويسكبوا قهوة الصباح للنزلاء في فنادق لندن.
هذه آلهة طيبة أقول لها.. ترد: «ليس كل الآلهة طيبين، لدى الهند آلاف الآلهة، لكن «براهما» العظيم الذي تنحدر بيريانكا من صلبه، هو أصل الخير، أصل النور والحب، وهو الذي يقول لي كل صباح قومي باكراً، اسكبي القهوة للنزلاء، ويحدثني أنني إذا لم اسكب القهوة فإنه سيطردني من بيته».
قلت لها: أريد أن أكون ابناً للرب مثلك يا بيريانكا، قالت: «ليس بالضرورة أن تجري فيك دماء البراهما مثلي، لتكون ابناً للرب، كل ما عليك لتكون ابناً للبراهما، ان تسكب القهوة للناس، وتجعل يومهم سعيداً».
الحوثي وبيريانكا، كلاهما من هذه الطينة، جاءا من السماء، غير أن الحوثي يرى أن الله خلق العالم لخدمته، بينما ترى بيريانكا أنها مخلوقة لخدمة العالم، وهذا هو الفرق بين اثنين من أبناء الآلهة التي كثـَّرتْ من أمثال عبدالملك الحوثي ـ للأسف – وقللت من أمثال بيريانكا الجميلة.
بالأمس هدد أنصار «سليل السماء» فتاة في كلية التجارة في جامعة صنعاء بإلقاء ثيابها عنها ما لم تحتشم. هبة الذبحاني طالبة كلية التجارة المحجبة، تهدد بنزع ملابسها لأنها غير محتشمة، لمجرد أنها لا تلبس العباءة السوداء. يريد الحوثي أن يجعل نساء اليمنيين يمشين في سواد دائم حداداً على أجداده الذين قتلوا في معارك سياسية لا دخل لهبة الذبحاني بها.
ذنب هبة الذبحاني حسب الحوثي أنها تبتسم، وتتحدث مع الشباب، ولا ترتدي العباءة السوداء، لكن ذنبها الحقيقي الذي حدثتنا عنه وسائل الإعلام أنها خرجت تقود وقفة نظمها طلبة جامعة صنعاء، احتجاجاً على وجود مسلحي سليل الآلهة داخل حرم الجامعة. وقبل ليالٍ هجم مسلحو «ابن الله أو ابن رسوله» على حفل زواج في صنعاء، وعطلوا الغناء ومنعوا الفرح، لأن اليمنيين لا ينبغي أن يفرحوا في عاشوراء، وهو اليوم الذي يقول الحوثي إن جده قتل فيه. قال أحد الخارجين من حفلة الزفاف المجهضة، «أقسم بالله العظيم، ويدي على المصحف، أنني بريء من دم الحسين، وأنني لا أعرف من قتله».
هذا شعب لا يليق به إلا الحزن، وهذه أرض لا يليق بها إلا البكاء، أما هبة الذبحاني فلا يليق بها إلا العباءة السوداء حزناً على حسين لم تره، ولا شهدت مقتله.
أقرأ خبر هبة في وسائل الإعلام اليمنية، وأذكر الحوثي، وتقفز إلى ذهني بيريانكا الربة الهندية الجميلة. أقول في نفسي: حكمتك يا رب، حتى عندما تجري عملية توزيع أبناء الآلهة على الأرض، يأتي من نصيبنا أسوأهم على الإطلاق، أبناء الآلهة العابسين المسردبين، الذين ليس لديهم أي تحصيل علمي، والذين لم يغادروا بعد معركة صفين. لماذا لم تكن ربة الهند بيريانكا من حظ اليمنيين بدلاً من وجه عبدالملك الحوثي اليابس الذي يخرج علينا من سردابه في صعدة، وعبر شاشته التي حولها إلى حسينية، يعلمنا كيف كان جده يهز باب خيبر، بدون أن يعلمنا كيف كان ينام على التراب.
لو كانت بيريانكا في صنعاء لعدت إليها لأتناول قهوتي الصباحية في كافتيريا الجامعة مع هبة الذبحاني، من يد بيريانكا ابنة الآلهة التي ترى أنها لن تكون ابنة إله ما لم تسكب لي القهوة، في حين يرى عبدالملك الحوثي أنه لن يكون ابن إله ما لم يسكب اليمنيون جميعاً قهوته المشؤومة من الدماء والدموع كل مساء وصباح.
د.محمد جميح
الحوثي وبريانكا ودماء الآلهة 1794