نقل مؤرخ الثورة الفرنسية "ألبير سوبولْ" عن أحد قادة الثورة قوله "لقد انتقلنا بسرعة من العبودية إلى الحرية، ونحن نسير بسرعة أعظم من الحرية إلى العبودية" (سوبول، تاريخ الثورة الفرنسية، 161). ويقصد السياسي الفرنسي أن الفوضى التي سادت بُعيْد الثورة الفرنسية سرعان ما قضت على منجزات الثورة، حتى أصبح الناس راضين بعودة للعبودية السياسية التي كانوا يعيشونها قبل الثورة، بسبب ما عانوه من انفلات وتهديد لحياتهم الشخصية والاجتماعية. وهكذا تبرهن مآلات الثورة الفرنسية، والدروب الدموية المُعْتمة التي سلكتْها خلال ثمانين عاما، على أن الفوضى مَهلكة للثورات، وأنها أوسع الأبواب التي يمكن أن يعود منها الاستبداد عودة مظفَّرة، محمولا على أكتاف أولئك الذين ثاروا عليه!
وتدل الفلسفة السياسية على أن ركائز الاجتماع السياسي السليم هو وجود سلطة تخضع للقانون وتُخضِع الناس للقانون. وقد عبَّر عن ذلك جيمس ماديسون -أبو الدستور الأميركي ومنظِّر الثورة الأميركية- بقوله "يجب تمكين الحكومة من السيطرة على المحكومين.. ثم إجبارها على السيطرة على نفسها" (الأوارق الفيدرالية، الورقة رقم 51). فالسيطرة على المحكومين تعني منع الفوضى التي لا تقوم للدولة قائمة معها، وسيطرة الدولة على نفسها تعني حكم القانون بديلا عن هوى الحاكم الفرد.
إن الاجتماع السياسي ينهار بطريقتين: إحداهما هي الطغيان السياسي الذي يضغط على البناء الاجتماعي من أعلى حتى يتصدَّع، ثم يتَّسع الصدْع على مرِّ الزمان حتى يتحول شرخا واسعا. وهذه الطريقة بطيئة، قد لا تؤدي إلى انهيار المجتمع تماما، ولكنها تُفقده روحه الدافعة، فيتحول هيكلا خامدا حتى يُلمَّ به عامل خارجي فيُودي به. والثانية هي الفوضى التي تعصف بالاجتماع السياسي من أساسه بسرعة، فينهار كيان الدولة تماما، ويرجع الناس إلى الاحتماء بالولاءات الضيقة، صيانة لأرواحهم وأموالهم، فيفقد المجتمع الإرادة المشتركة الضرورية لكل بناء سياسي سليم.
وكثيرا ما يخرج الاستبداد السياسي من عباءة الفوضى الاجتماعية، وتخرج الفوضى الاجتماعية من عباءة الاستبداد السياسي، فكل من الفوضى والاستبداد يُغذِّي الآخر ويتغذى عليه. فالطغيان السياسي يؤدّي إلى ردود فعل فوضوية في المجتمع، والفوضى تسوّغ الطغيان السياسي وتجعل الناس ترضى به، خوفا على الدولة من الانهيار، وعلى المجتمع من الاندثار.
وقد حدث ذلك الانهيار السريع للنظام السياسي الحرّ بسبب الفوضى، في تاريخ المدن الديمقراطية اليونانية، وفي تاريخ الخلافة الراشدة في صدر الإسلام. فالاستبداد السياسي حرب أهلية مؤجَّلة، وبركان خامد ينتظر لحظة انفجاره، والفوضى الاجتماعية مشروع طغيان سياسي قادم. لذلك يحتاج الاجتماع السياسي إلى الجمع بين القانون والحرية. وإنما نجحت أُولى الجمهوريات في العصر الحديث -وهي الجمهورية الأميركية- لأنها كانت تركيباً عجيباً من قوة الامبراطورية الرومانية، وحريَّة الجمهورية اليونانية. ولم تنجح الثورة الفرنسية في ذلك إلا بعد زمن طويل، وجُهد جهيد، وحصاد مرير، بسبب ما شابها من روح فوضوية، ومن عنف غير منضبط بضوابط القانون والنظام.
وحين تُخيَّر الشعوب بين الفوضى العارمة والاستبداد السياسي فإنها تختار الاستبداد في غالب الأحوال، وتعتبره أخفَّ الضُّرَّينِ وخيرَ الشرين. وهذا هو الخيار الذي ساد في التراث السياسي الإسلامي. وقد عبر فقهاء السياسة الشرعية والآداب السلطانية عن ترجيحهم للاستبداد السياسي على الفوضى الاجتماعية بقولهم السائر "أسدٌ حطوم خير من سلطان ظلوم، وسلطان ظلوم خير من فتنة تدوم" (القلعي، تهذيب الرياسة وترتيب السياسة، 96). لكن الاحتماء من الفوضى بالاستبداد خيار قصير النظر، إذ هو علاج للعرَض وإبقاء على المرض. فالاستبداد هو الجِذْر الذي يرجع إليه أصل المعضلة السياسية. وقد انتبه إلى لذلك الإمام أبو منصور الماتُريدي، فردَّ الأمور إلى أصلها السياسي قائلا: "إن الفتن ونحوَها إنما تَهِيج من الأمراء الجائرين ومن أتباعهم." (الماتريدي، تأويلات أهل السنَّة، 4/113).
وأحيانا تكون الفوضى المصاحبة لبعض الثورات فوضى "طبيعية" ليست مفتعلة، وإنما هي ثمرة من ثمار ضعف الوعي السياسي لدى الثوار، أو طغيان الأنانية السياسية على تفكيرهم، مما يمنعهم من بناء إرادة مشتركة، ويجعل جهودهم متضاربة. فتضيع "الكتلة الحرجة" التي انطلقت بها الثورة، وتتحول أشتاتا من الجماعات والفصائل التي لا يجمع بينها سوى العداوة للنظام الاستبدادي القائد، دون اتفاق على رؤية أخلاقية للبديل، ولا خطة عملية للتغيير.
وفي بعض الأحايين تكون الفوضى المصاحبة للثورة مُفتعَلة من النظام الاستبدادي، سعيا إلى تلطيخ النصاعة الأخلاقية التي تتمتع بها الثورة، وإضعاف شرعيتها لدى عامة الناس. فالحاكم المستبد لا يرى البلاد والعباد أكثر من وسائل لأهوائه الفجة، وسُلَّما إلى أمجاده الشخصية. ولذلك فهو لا يتردد في إغراق المجتمع في الفوضى الدموية حفاظا على كرسيِّه المتضعضع. وذلك منطق قديم عبَّر عنه القول الفرنسي السائر "مِن بعدنا نحن فليكن الطوفان" المنسوب إلى ملك فرنسا لويس الخامس عشر وعشيقته مادامْ مومبادورْ.
حينما قرر جنرالات الجزائر المدعومين من فرنسا اغتيال الربيع الجزائري الذي تفجَّر في ختام الثمانينات وجدوا أفضل وسيلة لذلك هي تحويل الحراك السياسي الديمقراطي في الجزائر إلى فوضى دموية، عبر السماح لجماعات سلفية غبيَّة بتصدُّر ذلك الحراك، ثم اختراق تلك الجماعات، وتوجيهها إلى ارتكاب فظائع دموية في شوارع الحواضر الجزائرية وفي ريفها، دفعاً للناس إلى نسيان مطلب الحرية تماما، وإلى الاحتماء بالسلطة العسكرية المستبدة حمايةً لحياتهم. وقد وصف الضابط المنشق عن القوات الخاصة الجزائرية حبيب سويدية تلك الإستراتيجية بالتفصيل في كتابه الشهير "الحرب القذرة" ( La Sale Guerre ) الصادر باللغة الفرنسية عام 2001.
ولفتتْ نظري فقرةٌ من تقديم القاضي الإيطالي فرديناندو أينبوزيماتو لكتاب "الحرب القذرة"، بعنوان "إستراتيجية التوتر"، لأنها تعبر بعمق عن منهج افتعال الفوضى سبيلا لاغتيال الثورات. ففي هذه الفقرة شرح السيد أينبوزيماتو كيف تبنت السلطة العسكرية الانقلابية في الجزائر إستراتيجية إلهاب المعركة وإشعالها أكثر فأكثر، من أجل إقناع الرأي العام في بلدها وفي العالم أن البديل عنها هو بحرٌ من الدماء وموجة من الخراب. وقد نجحت بذلك في تجريم معارضيها، وإشغال مواطنيها عن المشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي هي لبُّ الخلاف، وحولت الأزمة الجزائرية المزمنة إلى مجرد مشكلة أمنية تثيرها حفنة من الأشرار الخارجين على القانون!! وهكذا خرَّبت السلطة حياة الناس باسم محاربة التخريب، ومارست أبشع الإرهاب تحت راية مكافحة الإرهاب.
وقد لاحظ الباحث الفرنسي فرانسوا بورغا في دراسته للحالة الجزائرية أن هذه الاستراتيجية يمكن أن تحوِّل أي قوة سياسية إلى عصابة فوضوية، فكتب: "أعطني أي حزب سياسي في الغرب، وسأحوِّله لك إلى جماعة إسلامية مسلحة خلال أسابيع، إذا ما استخدمتُ الطرائق ذاتها المستخدمة ضد الحركات الإسلامية في الجزائر." ومن الواضح أن إسترتيجية إلهاب المعركة التي طبقها جنرالات الجزائر برعاية عربية وغربية منذ عقدين هي الإستراتيجية ذاتها التي تتبناها الثورة المضادة العربية وظهيرُها الدولي اليوم ضد ثورات الربيع العربي.
فمتى يدرك الثوار الأحرار في جنبات الوطن العربي أبعاد هذه الإستراتيجية الهمجية التي تغتال الثورات وتمزق المجتمعات؟ ومتى يفهمون أن الثورة حلف أخلاقي لا أديولوجي فيوحّدون صفَّهم على كلمة سواء من العدل والحرية للجميع دون ازدواجية ولا مثنوية؟ ومتى يدركون أن الفوضى والطغيان حليفان في كل زمان ومكان؟!
أستاذ الأخلاق السياسية ومقارنة الأديان