لم تعد جلسات العائلة العصرية تنعم بالبساطة والألفة اللتين كانت عليهما سابقا، أو بالتحديد قبل أن تجتاح الأجهزة الذكية المحمولة عالم الكبار والصغار. ومع انتشارها في كل بيت على أكثر من شكل، باتت الشغل الشاغل لكل فرد على حدة، حتى أنها سيطرت على أي مناسبة خاصة أو حديث يجمع الآباء والأبناء، أو الإخوة فيما بينهم وكذلك الأزواج والأصدقاء. ومن خلال مواقع التواصل الاجتماعي، يتكرر يوميا المشهد الصامت في كل بيت حيث مظاهر التفكك الاجتماعي تبدأ من هروب الجميع كل إلى عالمه، حتى وإن كانوا يعيشون تحت سقف واحد.
لقد انتشر في الآونة الأخيرة الاستخدام لمواقع التواصل الاجتماعيّ، حيث أدى ذلك إلى كسر الحدود الجغرافيّة بين الناس، وحوّلت هذه المواقع العالم إلى قرية صغيرة ، حيث تمثل منصات التواصل الاجتماعي روافد جديدة لبناء علاقات اجتماعية وفكرية وإنسانية على نطاق واسع دون حدود أو قيود، وما دعاني للكتابة عن هذه المنصات ما لمسته من آراء وأفكار وتعليقات لا تقيم وزنا لأحد، وكأن من يمتلك حسابا في هذه المنصات لديه شيكا مفتوحا للكتابة دون حساب نتائج ما يكتب، وهو أمر يثير الكثير من الأسئلة في عصر السرعة والعولمة والكلمة البرقية التي تصل أقصى مدى، دون أن يدرك كاتبوها ما لهم وما عليهم، نعرف أن خصوصيات الناس أصبحت على المحك، وان الجميع قد يكونون عرضة للنقد والهجوم والكلام البذيء، وهذا يجب أن ينتهي من خلال قانون الجرائم الالكترونية الذي ينبغي أن يعرف فيه كل واحد حدوده ونطاقه ووزنه الحقيقي، هذه المنصات تركت الجميع في سوية واحدة لدرجة لم يعد للكلمة فيها أية قيمة، ومما يزيد الطين بله حجم الكتابات التي تجلد الوطن بغير وجه حق، والإساءات التي تلحق بالأفراد وحجم الكراهية التي تقرأها أحياناً في التعليقات، وكأن المنصات تبيح لأي فرد كان أن ينتقد ويكتب ويجلد من يريد ويكذّب من يشاء سواء أكان في مناسبة أم دون مناسبة.
أقول لكتاب هذه المنصات ارحموا المجتمع وأنفسكم من المساءلة والوطن واتركوه لكي يوجه التحديات بعزيمة وإرادة وحزم، لا نريد لتلك المنصات ان تكون أدوات هدم مغرضة لإطراف لا هم لهم غير بث الفتن، ولتكن هذه المنصات محطات تعزز البناء والعطاء والنماء تزرع حب الوطن وتدافع عن منجزاته ومواقفه؛ لأن حب الوطن لا يكون كلاما معسولا، وإنما يتجلى بالانتماء والعمل والفعل والالتفاف حول رايته تجسيدا لقول رسول الله عليه السلام: “ما أطيبك من بلد وأحبك إلي “، غير أنّ الأجمل أن يحيى الإنسان من أجل هذا الوطن.
ومَنَ يقرأ منصات التواصل الاجتماعي وما يكتبه الناس فيها ويتصفح حروفهم وكتاباتهم، يعرف أن كثيرين يلتزمون آداب الحوار والرأي والرأي الآخر، غير أنّ من يراقب بعض منصاتهم يقرأ صوراً غريبة، وبعضهم ينصب نفسه خبيرا في كل شيء وهو لا يقدّر ان ما يكتبه يسيء للناس ومعاناتهم ولا يحس بظروفهم ومتطلباتهم؛ منصات تخصصت بالسب والشتم والعنجهية والتطرف وبعضهم يتمنى ان يصادر حتى الهواء النقي من رئة الناس؛ منصات لا تتوانى تذبح المجتمع والنَّاس والوطن صباح مساء بأفكارها وتحليلاتها وآرائها استمرأت العزف على أوتار غريبة في ظل ظروف معقدة ومؤامرات على الوطن ، فنقرأ ونسمع بين حين وأخر آراء مريضة مصدرها كتابات في هذه المنصات الالكترونية موتورة وتقارير مشبوهة وندوات تلفازية مدفوعة، لا تعرف من الوطن أكثر من مصالحها، وإن قلت مكتسباتها عاثت خراباً وفساداً وأطلقت شائعاتها هنا وهناك.
إن أطروحات بعض منصات النخب والكُتّاب وأصحاب الرأي وطموحاتهم تظلم مجتمعنا، وأن حدود مصالحهم الشخصية خطاً أحمر ولا يجب أن تنزع منهم حتى وإن انتهى عملهم، ومنهم بعد أن فقدوا الهيلمان تجدهم يطرحون قضايا وموضوعات غريبة لا تمت للدروس والمواعظ التي سمعناها منهم حين كانوا في مواقعهم، ما الذي غيرهم؟ ولماذا يختلقون مشكلات وقضايا تمس الوحدة الوطنية برمتها ، وكأنهم قد فاقوا للتو من أحلامهم وسباتهم، لا نريد أن ندخل مع هؤلاء في مهاترات لا تسمن ولا تغني من جوع؛ وإنما نقول لهم: أرحموا اليمن وأهله من فتنكم وأفكاركم وأطروحاتكم، إذ يكفيه ظروفه الاقتصادية وتحديات الجوار والاستحقاقات الكثيرة، لا نريد بهلوانيات تلك المنصات وإعلامياتها وانجازاتها المقلوبة، نريد مخلصين وأوفياء يرفضون أفكار الظلاميين والمندسين والكارهين للحياة، نريد مراقبة تلك المنصات ومتابعتها ومحاسبة مثيري الفتنة لإزالة مظاهر الأذى عن مجتمعنا. نعم نريدها منصات تنشر الخير والود والحب بين الناس كي تبقى نعمة تلتحم فيها الأواصر لكي يسعد الجميع وليبتعد كتاب المنصات الاجتماعية عن إثارة الفتن والنقم والكراهية ولتبقى النفوس خضراء كجبال اليمن الشامخة و الباسقة بالخضرة والجمال.