عام 1977م تحدث الفيلسوف والشاعر/ ادونيس بلسان المستقبل استحالة أن يكون التغيير الثوري تحريراً إلا إذا كانت الجماعات التي تقوم به قد تغيرت هي نفسها وتحررت. وإن وجود الجماعات التي تعيش هذا الوعي، أي المتحررة جذرياً، أمر ضروري يجب أن يسبق عملية التغيير الثوري، دون ذلك، يرى ادونيس أنه لا يكون التغيير إلا تحريكاً للمستنقع يقذف إلى السطح بمزيد من الكسور والوحل، ولن يؤدي- حسب رأي مفكرنا الكبير- ذلك التغيير إلا إلى أشكال أخرى من العنف والقمع.
هذه العقول التي تقرأ المشهد وتربط الأحداث نظرياً وعملياً، ببلوراته السحرية يستشرف المستقبل، وكأنه كان يرى كل ذلك قبل ما يربو عن الثلاثة عقود تنبأ ادونيس وهذا ما حدث تماماً فما أن بدأت عملية التغيير ببلدان الربيع العربي عقب سقوط الأنظمة حتى بدأت عملية إنتاج أنظمة مستبدة على ذات منوال سابقتها من أنظمة القهر البوليسية مع إضافة نكهة عقائدية طائفية ومناطقية بديلاً للنكهة العسكرية للأنظمة الساقطة، وكأنما سقط كل هذا العدد من القتلى من أجل أن يقذفوا إلى السطح بمزيد من الوحل!
صورة واقع اليوم في بلدي اليمن ومنها عدن، هي نفس صورة دول الربيع العربي وإن لم تكن الأسوأ، وخذلان ثورة، لا معنى له غير غياب الوعي فتعطلت العقول، وأحرقت الثورة وقهرت الأمة، فتحولت الأهداف لشعارات للاستثمار والمناكفة والمماحكة، فغرقنا في ذات الوحل، غياب الوعي غيب المشروع والاستراتيجيات والسياسات الحكيمة، جهلا قيد الاختيارات والمواقف، تفوقت الأنانية عن المصلحة العامة، والمشاريع الصغيرة عن المشروع الوطني، احتشدنا خلف أفراد وكيانات هاتفين شعارات منقادين دون ملامح لمشروع وإستراتيجية عمل لنحدد مسار الطريق الذي سنسلكه والمحطة التي سنصل إليها، ما هو شكل وجوهر النظام الذي نريد؟ هل سيلبي قناعات الكل، وسنحقق طموحات وآمال مشتركة ترضي الجميع، وهل تلك الزعامات تملك من الوعي والفكر الذي يؤهلها لتقودنا لدولة المواطنة، دولة ديمقراطية عادلة بنظام وقانون نافذ على الجميع.
الوعي هو حجر الزاوية، وعي بالديمقراطية والمواطنة والحرية والعدالة، وعي ينتج دولة ترعى حقوق وحريات الجميع، لنتعايش ونتوافق على نظام وقانون يحكم علاقاتنا ويدين المخل، ويوقف هذا والوحل من المناكفة والاتهامات والإشاعات، التي تدمر العلاقات وتؤجج الصراعات وتزيد من حجم الأوجاع والثارات.
غياب الوعي أو بمعنى الجهل، أوجد المناكفة، والشيطنة، الإشاعة، والترويج للعنف والظلم، استوقفني جهلا للبعض حينما يهاجمون من ينتقد الحجز الغير قانوني للناس، قالها أحدهم أرسلوا نساءكم لتتظاهر مع إرهابيين، هذا الجهل الذي حكم وقرر ونفذ حكمه بقانون الغاب، متجاوزا النظام والقانون والشرع، المتهم برئ حتى تثبت إدانته، والواعي يعرف كيف يجب أن تثبت إدانته، والأمثلة كثيرة، إنه الجهل مصيبتنا يساند المستبد والظالم حتى يمسه شيئا من ذلك فيصحوا ويعرف الحق من الباطل.
الجهل هو من عطل القوانين، وصعب تفعيل القضاء والنيابة، هو الذي يعيق العدل والإنصاف والتعايش والعيش الكريم، هو الذي جعلنا رهن إشارة الخارج، نتسابق لإرضائهم، ونتفاخر بأن نكون جزءا من اختياراتهم ومواقفهم وصراعاتهم، كما قال الكاتب الكبير الذي افتقدته الساحة اليمنية/ سعيد عولقي في مسرحيته التركة الجزء الثاني (قالوا ثورة قلنا معكم قالوا ثوار قلنا معكم)، هكذا تعاملنا ونتعامل مع قضايانا المصيرية ومنها محاربة الإرهاب، التي صارت صك غفران وشهادة قبول، دون برنامج وعي وتنوير وإرشاد بأخطار الإرهاب، ومحاربته كفكر وثقافة موجودة بيننا نقبلها ونتحالف معها ونستثمرها ونحاربها معا، أيوجد قلة وعي أكثر مما نحن فيه يَا أُولِي الأَلْبَابِ.