الكل يتطلع للسيادة والاستقلال، تختلف المشاريع والرؤى، وفي مجملها تصب لنفس الهدف، العقل العصبوي يعتقد أنه وحده من يحمل هذا المشروع، وإن كان معظمهم صادقين، ففيهم من يستخدمه للاستهلاك السياسي، تتضح هذه الرؤية في السلوك والثقافة، يتضح الحريص على النجاح الداخلي، على التوافق، على إنتاج الحلول، على الانفتاح على الآخر، كل فرد يعبّر عنه خطابه منشوراته حواراته، فيهم من يحرص أن يكون جزءا من الحل لا المشكلة منفتحاً على الآخرين، لا يهتم للنجاح الشكلي الذي يبروزه بل يهتم للنجاح العام الذي يحسن من الواقع، ويطهر من الرداءة، وآخر منغلق حريص على أن يبرز على حساب الآخرين، ينبش في مزابل التاريخ والزمن وعورات شركائه في الوطن ليستعيد صراعات ليصفي حسابات ثأرية، دائماً في مناكفة، ليتحول لمشكلة بحد ذاتها، مثيراً للشفقة في تأجيج المشكلات وتأزم الأزمات، صانع لرداءة الواقع، مهما تحمل من مسئولية يبقى ذلك الصغير المفسبك المناكف .
شتان بين نضال اكتسب تجربة وصنعته المعانات، علمته السجون والمنعطفات، وبين من وجد ذاته في لحظة فارقة في موقع لا يستحقه يحاول أن يملأه، فخانه الوعي والتجربة والثقافة والفكر .
ثمة من يؤكد أن التاريخ الإنساني هو صيغة الفرد، بينما يرى مفكرون أن الشخصية الفردية أكذوبة العصور قاطبة، ما لم تتحرر من ماضيها، بحكم انتهازية النفس التي تعطي الحق في أن يمارس السيطرة على أفراد وجماعات ومجتمعات تمهيداً لسيطرة طبقة على أخرى، الرهان على الفرد يسهّل للاستبداد أن يتوغل فينا خاصة في مجتمع متخلف كمجتمعنا .
الاستقلال هو تحرر، هو مشروع أمة، ولن يكون تحرراً ما لم تتحرر الجماعات التي تقوم به، تتحرر من ماضيها، لتتخلص من ثقافة العنف، والمماحكة، والإشاعة، ونبش القبور، ومزابل التاريخ، والبحث في عورات الآخرين، لتلميع الذات بتشويه الشركاء، عبر التاريخ لم تتحرر أمة متناحرة، فيها فرز شيطاني للمجتمع يا خونة يا وطنيين، أو إقصاء وتهميش، أو حضر وإلغاء، التحرر بمعنى الحرية للفكر للثقافة للتعبير، حرية المجتمع في الاختيار دون فرض أمر واقع على الجميع أن يتقبله، ذلك معناه أن من حق الناس أن تقاوم أي فرض كان لا يلبي قناعات البعض أو قاسم مشترك بينهما .
واقع اليوم في أسوأ حالته، نعيش تناقضات حادة بين القول والفعل، نبحث عن ما يجمعنا، وننتج ما يفرقنا، نبحث عن الحل، وننتج مزيداً من المشكلات، للأسف البعض ممن يعتبرون أنفسهم ممثلين لهذا الشعب أو فئة منه أو ناطقين باسم مكوناته، لا يعو المسئولية، ولا يستوعبوا طموحات وتطلعات الناس، إن كبرت مسئوليتهم ولم يكبر وعيهم يظلون تلك الجماعة المفسبكة والمناكفة، التي لا توزن كل كلمة وعبارة تكتبها وتبعاتها على الأرض، يمكن وصفهم مستثمرين لآلام وأوجاع ونتائج الحرب اللعينة، يأخذون صوراً وأحداثاً إنسانية لدماء وأشلاء ومعاناة من هنا وهناك لمناكفاتهم مع الآخر بصورة لا تعبّر غير عن سقوط أخلاقي وإنساني مقزز، من يقدم خطاباً نارياً تخوينياً فيه تجريح واتهام الآخرين، لا يمكن أن يكون ممثلاً لشعب طموح في التحرر والاستقلال، شعب منهك من الصراعات ويبحث عن الاستقرار والتوافق والعيش الكريم، إنهم دعاة فتنة منتجين للمشاكل والأزمات، متباهين بلغتهم المنحطة ومناكفاتهم البذيئة، عن أي استقلال يتحدث هولا، عليهم تحرير نفوسهم من الماضي، ليكونوا في الحاضر ليصنعون مستقبلاً خالياً من الثار والمناكفة والثقافة الرديئة والعنف والعنف المضاد، من صراعات سلبية، لتلتئم الشروخ وتعالج التصدعات وتنتهي الهوة بين الأفراد، ليتعافى المجتمع من أمراضه ويشفى الوطن لتعلو راياته خفاقة في سماء الحرية والعدل والمساواة والمواطنة، ونظام وقانون يحكم علاقاتنا .