كسر اليمنيون ليلة السادس والعشرين من سبتمبر من سنة 1962م باب العزلة الذي كان الكهنوت الإمامي قد أحكم إغلاقه، فإذا باليمنيين يطلعون على عالم جديد كأنما جاؤوا إليه من كوكب آخر.
وفي المقابل فقد اطلعت شعوب العالم - بكسر الثورة لباب العزلة - على متحف مفتوح يعرض عليهم حياة قرون ماضية، أو حياة القرون الوسطى، كما أوروبا.
لم يغادر الإمام يحيى اليمن، ولم تغادر عقيلته أفق الحاكم الذي لا يرى لنفسه من مهام غير جباية الرعية وامتصاص جهود الناس ودماء الشعب، الذي عليه أن يبقى باستمرار يدفع كل ما يكسبه (لمولاه) الإمام، وينعم بتقبيل قدميه وركبتيه؛ لأنه بزعم الكهنوت إبن السماء، وليس لأحد أن يقول له كما قيل لعمر من أين لك هذا؟ - وقد رأوا عليه ثوبا يزيد على ما وزعه على الناس، حتى أسقطوا مساءلتهم عندما علموا أن الزيادة كانت ثوب ابنه عبدالله الذي آثر أباه بنصيبه -
أما هنا فشعار الكهنوت الإمامي: لماذا أخفيت عنا هذا!؟ فأنت ومالك للإمام، وليس لأحد أن ينصح، وإلا فسجن (الأهنوم) بانتظارك، وتخبرك قصيدة (مصرع الضمير) لأبي الأحرار الزبيري الذي راح ينتقد الوضع ويتصدى للنصح، فقيل له إن شئت رضا الإمام والمنصب فدع التعرض بأي نصح أو نقد، فقال حينها قصيدته الشهيرة مصرع الضمير، وفيها:
مت في ضلوعك ياضمير
وادفن حياتك في الصدور
لأن نصح الإمام تجاوز ما بعده تجاوز، وتطاول على منزلة الكهنوت (المعصوم) وأسرة ترى لنفسها نسبا يستعلي على كل البشر:
نصحت فقالوا هدمت البلاد
وزلزلت أركان أعتابها
ومالك والنصح في أسرة
تنال السماء بأنسابها!
فوجد نفسه في قعر سجن الأهنوم السيئ الصيت!
وقد كان يحيى، مؤمن شديد الإيمان بالواجبات التي فرضها آباؤه على الرعية، وورثها عنهم، وورثها هو لبنيه، كما كان مؤمن شديد الإيمان أيضا بمهامه وواجباته تجاه الرعية والتي كانت محصورة في المثابرة بتحصيل كل ما لدى الرعية من أموال!
فإذا ما حلت بالشعب مجاعة، وماتت الآلاف وتجرأ بعض العقلاء بالطلب منه أن ينفق شيئا من الحبوب والطعام المتكدس في مخازنه؛ لينقذ الناس من الموت، كان رده بكل برود:" من عاش فهو سعيد ومن مات فهو شهيد"!
أما الطاغية أحمد يا جناه! فكثيراً ما سافر إلى الخارج واطلع على تطور حياة الشعوب وجهود الحكومات، لكنه هو الآخر كان شديد الإيمان بفلسفة الحكم الإمامي الكهنوتي، وهو أن يعطي للرعوي ركبتيه يتمسح بهما، وأن يستلب منه كل ما يملك وحتى اللقمة من يديه!
فإذا ما تحدث من الرعية أحد عن العدالة والحرية وضرورة الأخذ بأساليب العصر، يبرق العبيد إلى أحمد ياجناه؛ يخبرونه بمؤامرة كبرى تهدد العرش من بعض الأحرار الذين نجوا بقدر من سيف الانتقام والإعدام من أحرار وثوار 48؛ فيقطع ياجناه زيارته في (روما) ليصل يحمل غضبة كهنوتية، فيخطب خطبة السيف الشهيرة محذراً من العصريين، ومهددا: ( والله لأروين سيفي من دماء هؤلاء العصريين!)، بالرغم من أن مظاهر وصور بل ومتعة حضارة العصر في روما لم تغادر مخيلته وذاكرته بعد، لكنه معجون أبا وذرية بالتخلف الذي يجد حكمه فيه.
لقد جعل يحيى وأحمد اليمن في كهف ووقفا بكل قوة على بابه؛ ليمنعا أي شعاع أو نور يمكن أن يتسلل إلى داخل الكهف، واليوم كهف مران يريد أن يتمدد ليستعيد كهف الإمامة والكهنوت من جديد.
عبده الحوثي هو الآخر مؤمن جدا بأن يمنح ركبتيه وقدميه لكل العبيد، ومؤمن بأن يتقرب بنهب مرتبات وممتلكات الرعية وكل الموارد كما هو حاصل اليوم بهدف إعادة اليمن إلى كهف الظلمات!... ولكن هيهات:
وبطن الشعب حبلى من جديد
ستولد ثورة فيها الكرامة