نحن المجتمعات المتخلفة، المعاقة عن النمو، نحن العالم الثالث، لازلنا امتداداً لذلك التاريخ الدموي، وثقافة عصر أبي تمام (السيف اصدق أنباء من الكتب) في زمن الفكر والتكنولوجيا والعلم الحديث، مجتمعات يقتله الثار والانتقام والخصومة الفاجرة مصدر فشلها، مسيرتنا مكتسية بلون الدم، تصرخ جنباتها من دواعي الانتقام، نتحرك كجحافل أغبياء مشبعين بالشكوك والهواجس، نعمم كل شيء، دون وعي وعقل، نحمل بنادقنا لنصفي بعضنا بعض، ننتحر وننحر مشاريعنا الوطنية بأيدينا، بالصراخ والعويل والشطح والتشنج، حيث لا يستخدم العقل البتة، نكاد أن نكون أضحوكة العالم .
هل فكرنا يوماً بتقييم الذات والتاريخ، لنستخلص العبر والدروس، هل اعترف كل حزب ومكون وجماعة وقبيلة وعشيرة وفرد بما اقترفه من خطيئة، وما تلطخت به يداه من دماء، إنها ثقافة الشجعان، وثقافتنا هي السلطة والاستبداد وقهر الآخر والانتقام، من أول نفس ينتابنا بالشعور بقوة السلطة والجاه، نمارس قهر الأخر المختلف والمتنوع الذي لا يتوافق ووجهتنا السياسية أو الفكري.
كنت وجيلي شهوداً على مراحل صراع دموي في الجنوب منذ الاستقلال والحرب الأهلية بين القومية والتحرير، مسلسل تتابعت حلقاته بأحداث الرئيس قحطان واغتيال الرئيس سالمين وأحداث يناير المشئوم، تم تصفية كوكبة من أخيار البشر وكوادر الدولة أصحاب الفكر وعقلاء السياسة مهنيين كانوا قد وصلوا لمستوى العالمية في مجال أعمالهم، كنا شهوداً على تصفية رجال الدين ورجال القبائل، نفكر بفرض أيدلوجيا الفكر الواحد وحكم الحزب الواحد، مخترعين تصنيفات اليمين الانتهازي واليسار الانتهازي...الخ، وإن زاد معيار التدين تحوم حوله الشكوك.
عقلية لم تسلم منها الجنوب والشمال المخيم عليه الظلام والطاغوت، واقع الألم والوجع أصاب الوطن بالفتن والثارات، شق الصف ومزق اللحمة وجعل البعض فريسة سهلة للمغرضين والمحرضين، والحشد لخدمة نفوسهم المريضة .
تفاءلنا بالوحدة المباركة، فحولوها لكابوس، لا نفعت تعددية ولا ديمقراطية مع طواهيش السلطة والثروة والفساد، وذهب التفاؤل أدراج الرياح، لأننا مجتمع ماضوي محقون بالثارات، كنا فريسة سهلة لمستبد وطاغية، قوضنا مستخدما تناقضاتنا، غذاءها، وإحياء ما مات منها، حتى حولنا لمجتمع ضعيف أهون من بيت العنكبوت وانقض علينا في 94م، ولازال إلى اليوم قادراً على استخدام تناقضاتنا..
لم نفق بعد من هول الصدمة، صرنا مثيرين للشفقة، سهل اقتياده لمعارك تصفية بعض برداء وطني، لا نحتاج غير حشد وشعارات وتصفيق وتصعيد، لم نستطع أن نتغير ونعي مفهوم ثورتنا، ونتغير وفق متغيراتها ونواكب أحداثها، لكن بعضنا قابع في ذلك المربع، لا يريد أن يغفر ويستغفر، لا يريد أن يتصالح مع الذات والتاريخ والآخر .
لن تبنى دولة المواطنة دون ديمقراطية ولا ديمقراطية دون تعددية وحرية، ولا تعددية دون أحزاب، ولا حرية دون أفكار متنوعة، المهزوم يبحث عن نصر ضد شريكه والمنتصر يبحث عن نصر للجميع نصر الشراكة في وطن يجمعنا، حيث لا ندم ولا زلة قدم، وها هو مسلسل الدم يعود ليغتال مشائخ الدين وشبابا مدنيا طموحا ومستقبل وطن، وملفات أقرانه في دهاليز الأمن ينتظر الناس نتائجها وإنصاف ضحاياها والله من وراء القصد .